الأحد، 19 يونيو 2016

& المطر رحمةٌ، وهو حديث العهد بربّه؛ فيُسنّ التبركُ به.

عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: « لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى ». 

أخرجه مسلم(2/615) رقم (898).

شرح الحديث:

قوله:(حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَيْ بِتَكْوِينِ رَبِّهِ إيَّاهُ.[ "نيل الأوطار"(4/39)].
- قَالَ النَّوَوِيُّ في"شرح مسلم"(6/195):" وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَطَرَ رَحْمَةٌ، وَهُوَ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، لَهَا فَيَتَبَرَّكُ بِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ أَوَّلِ الْمَطَرِ أَنْ يَكْشِفَ بَدَنَهُ لِيَنَالَهُ الْمَطَرُ لِذَلِكَ ".

- وقال المباركفوري في"مرعاة المفاتيح"-وهو شرح سلفي-(5/181):" أي جديد النزول بأمر ربه أو بإيجاد ربه وتكوينه إياه، يعني أن المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها، وفيه دليل على أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف بدنه ليناله المطر لذلك. وقال التوربشتي: أراد أنه قريب عهد بالفطرة، وأنه هو الماء المبارك الذي أنزله الله من المزن ساعتئذ فلم تمسه الأيدي الخاطئة ولم تكدره ملاقاة أرض عبد عليها غير الله. قال المظهر: فيه تعليم لأمته أن يتقربوا ويرغبوا فيما فيه خير وبركة ".

- وفيه دليل على علو الله على خلقه كما ذكر الذهبي في"العلو"(ص55)؛ خلافاً للمبتدعة الضلال الذين يقولون إن الله في كل مكان {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. 

- وفي الحديث دلالة على بركة ماء المطر وقد دلت عليه نصوص أخرى.

-قال العلامة ابنُ عثيمين -رحمهُ الله-:
" وقوله: "حديثُ عهدٍ بربِّه"؛ يستفاد منه فائدة في أصول الدِّين: 
وهو تجدُّد فِعل الله -عزَّ وجلَّ-، وأن اللهَ -عزَّ وجلَّ- يفعل ما يشاء، والفِعل -هنا- المُتجدد بالنسبة إلى المفعول؛ يعني: خلقُه لهذا الشيءِ الجديد غيرُ خلقه لهذا الشَّيء القديم.
أمَّا أصل الصِّفة (وهي الخلق)؛ فهي قديمة، لازمة لله -عزَّ وجلَّ-، لم يزل ولا يزالُ خلَّاقًا؛ لكنْ: لا شكَّ أنه يخلقُ الولدَ بعد خلق أبيه، أليس كذلك؟ ويأتي الليل بعد النهار، والنهار بعد الليلة السابقة، وكل ذلك مخلوق يتجدَّد. 
فيستفاد منه: قيام الأفعال الاختيارية بالله -عزَّ وجلَّ-، وهذا هو الذي عليه أهل السُّنة والجماعة، وإن كان الأشاعرة وكثير من المتكلِّمين يُنكرون هذا، ويقولون: إنه لا يمكن أن تقوم بالله أفعالٌ اختياريَّة؛ لماذا؟ قالوا: لأنَّ الفعل الحادث لا يقومُ إلا بحادِث، والله -عزَّ وجلَّ- ليس بحادث، فهو الأول الذي ليس قبلَه شيء!
ولا ريبَ أن هذا التعليل لا أقول: إنه عليل؛ لكني أقول: إنه ميِّت! 
كيف ننكرُ ما جاء في الكتابِ والسُّنة مِن ثبوت الأفعال الاختياريَّة الكثيرة التي أثبتها اللهُ لنفسِه، والتي عبَّر عنها بقولِه: {إن ربكَ فعال لما يُريد} (فعَّال): صيغة مبالغة.. مِن أجل حُجَّة ضعيفة!
مَن يقول إن الفعلَ الحادث لا يقوم إلا بمحدَث أو إلا بحادِث؟
هذه القاعدة يُبطلها العقلُ والشَّرع؛ بل إنَّ القديمَ المُتَّصف بالصِّفاتِ الكاملة أَولى أن يكونَ قادرًا على الفعلِ متى شاء.
هُم عندهم أن اللهَ لا يفعل فعلًا اختياريًّا -أبدًا-؛ ولهذا يقولون إن الله ما يتكلَّم بكلام يُسمع؛ وإنَّما كلامُه هو المعنى القائم بالنفس -كالعلم والقُدرة-، والكلام المسموع هذا شيءٌ مخلوق خلقه الله، وهم -مع ذلك- يقولون إنها لا تقوم به الأفعال الاختياريَّة؛ ولهذا الأشاعرة لا يُثبتون لله صفةَ الخَلق -وإن كان الماتريدية يثبتونها-؛ لكن هم لا يثبتونها، يحملون كل ما جاء عن صفة الخلق على معنى الإرادة.
فالحاصل: أنَّ في هذا الحديث (دليل) على تجدُّد فعل الله -عزَّ وجلَّ-؛ لكنَّه باعتبار المفعول، ففِعلُه لهذا الشيءِ غير فعله للشيء الذي سبقه، أمَّا مِن حيث أصلُ الفعل وجنسُ الفعل؛ فإنَّه قديم أزليٌّ أبديٌّ؛ فإن الله لم يزل ولا يزال -سبحانهُ وتَعالى- خلاقًا  ".
[تفريغًا من "شرح بلوغ المرام"، كتاب الصلاة، الشريط47، من الدقيقة (51:54)]. 

- قال الإمام الألباني -رحمه الله-، وقد سُئل: ما القول في حديث الذي رواه مسلم عن أنس -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى اللهُ عليهِوسلَّم- كان إذا أمطرت السَّماء حسر عن منكبيه حتى يصيبَه المطر، ويقول: "إنَّه حديث عهدٍ بربِّه"،مع العلم بأن السَّحاب مصدر المطر قريبٌ مِن الأرض، وهو في السَّماء الدنيا؟ قال:
"... المطر؛ صحيح ينزل مِن السَّحاب، لكن السَّحاب في السَّماء، ما علاك فهو سماء، فهو ينزل مِن مكان يوصف بالعلو.
فحينما رُؤي الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد نزل المطر فخرج يتلقاه بصدرِه، فاستغرب ذلك منه بعضُ أصحابه فسألوهُ عن السبب؟ قال: "إنَّه حديثُ عهدٍ بِربِّه".
في ذلك إشارة إلى أن الله -عزَّ وجلَّ- له صفة العُلو، لكن نحن نقول -دائما وأبدًا-: علو الله -عزَّ وجلَّ- صِفة مِن صفاته -كأيِّ صفةٍ أخرى-، ومجموعُ صِفاته كذاتِه، كما أنَّ ذاتَه لا تُشبه شيئًا مِن الذَّوات، فكذلك صفاتُه لا تُشبه شيئًا مِن الصِّفات.
فإذا كان الكتابُ والسُّنَّة مُتواردين في آياتِ وأحاديث كثيرة وكثيرة جدًّا على إثباتِ صِفة العُلو للعليِّ الغفَّار؛ فهذا الحديثُ مِن تلك الأحاديث التي تُشير إلى صِفة العُلو؛ لكن الحديث لا يعني أن الله في السَّحاب؛ وإنما يعني أن هذا المطر نزل مِن جهة العلو -الذي هو صفة من صفات الله-عزَّ وجلَّ- ... " إلخ كلامه -رحمهُ الله-. 
[تفريغًا من (متفرقات للألباني-243)، موقع أهل الحديث والأثر، من الدقيقة (36)].

- ولا تَعارض بين كَونه حديثَ عهدٍ بخَلق وتكوين، وبين كونِه ينزل من جهة العُلو.
قال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-:
" قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنه حديثُ عهدٍ بِربِّه" يعني: نزوله قريب مِن السَّماء، لم يُخالطْه غيرُه.
فمعنى أنَّه "حديثُ عهدٍ بِربِّه"؛ يعني: بِخلقِ الله له، وإنزالِه له -سُبحانهُ وتَعالى-، وهو ماءٌ مُبارَك.
وليس المعنى أنَّه نازِلٌ مِن عند الله في العُلو؛ لأنَّه نازلٌ مِن السَّحاب، واللهُ -جلَّ وعلا- خلقَهُ في السَّحاب، وأنزله من السَّحاب.
هذا معنى "حديثُ عهدٍ بربِّه"؛ يعني: بِخلقِ الله له، وإنزالِه له، لم يُخالطه غيره مِن مواد الأرض، فهو باقٍ على بركته وطهوريَّته؛ فينبغي المبادرة لتلقِّيه والتَّعرُّضِ له ".
[تفريغًا من "شرح بلوغ المرام"، كتاب الصلاة، الشريط (32)، من الدقيقة (41:21)].

- قال العلامة عبد المحسن العباد البدر -حفظه الله- في "شرح سنن أبي داود"، باب ما جاء في المطر، (رقم 5100-صححه الألباني):
" ... "إنَّه حديثُ عهدٍ بربِّه"؛ يعني: هذا هو السبب الذي جعله يحسر عن رأسِه.
ومعلوم أن المطر إنَّما يأتي من السَّحاب المسخَّر بين السَّماءِ والأرض، وهو لا يأتي من السماوات المَبنيَّة؛ وإنَّما: الله -عزَّ وجلَّ- يُرسل الرِّياحَ فتُثير سحابًا فيبسطُه بين السماء والأرض، ثم يُنزِله حيث يشاء، وينفع به مَن يشاء من عبادِه، ويضرُّ به من يشاء مِن عباده؛ فهو يَنزِل من السحاب المسخَّر بين السَّماء والأرض.
وليس المقصود أنَّه نزل من فوق العرش، وأنَّه "حديث عهدٍ بربِّه" لأنَّه من اللهِ -عزَّ وجلَّ-؛ وإنَّما بكَونِ الله -عزَّ وجلَّ- أنزله، كما قال: {وأنزلنا مِن السَّماءِ ماءً طَهورًا}، {أَأنتُم أنزلتُموهُ مِن المُزنِ أم نحنُ المُنزِلون}؛ فهذا هو المقصودُ من قوله: "حديثُ عهدٍ بربِّه"؛ يعني: بإنزالِ ربِّه، وبإيجادِ ربِّه، وليس معنى ذلك أنَّه جاء من فوق العرش؛ لأنَّ المطر إنما يأتي من السحابِ المسخَّر بين السماء والأرض  ". 

[تفريغًا من (الشريط364/دقيقة: 21:30) من "شرح سنن أبي داود" للعلامة العباد، والمادة الصوتية متوفرة في "موقع أهل الحديث والأثر"]. 


********( والله الموفق والمعين )**********

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق