الأحد، 19 يونيو 2016

& وصف الإمام الترمذي-رحمه الله- بالتساهل!*


للعلماء في تساهل الترمذي موقفان : 
الموقف الأول : وهو رأي جمهور العلماء المحققين أن الترمذي متساهل ، وبعصهم يطلق ذلك ، والبعض يقيده بما صححه ، والبعض يقيده بما حسينه .
الموقف الثاني : وهو رأي لبعض العلماء ، يقدمون فيه ، ما حسَّنه الترمذي على ما صححه الحاكم ، ويفهم من هذا ؛ مدح وإطراء لما حسنه ، فما بالك بما صححه ، وإن لم يصرحوا بعدم تساهله ؟ ! . 
ونصَّ بعضهم على نفي التساهل عن الترمذي .
فسنذكر فيما يلى أقوال أصحاب كل موقفٍ ، ثم نذكر الراجح بعون المولى عزَّ وجل َّ .
الموقف الأول : قال ابن دحيه : " وكم حسن الترمذي في كتابه ، من أحاديث موضوعة ، وأسانيد واهية ". وفي هذا إشارةٌ إلى تساهله في التحسين ، مع أن كلام ابن دحية مبالغٌ فيه .
وقال ابن القيم : " والترمذي فيه نوع تساهل في التصحيح " . 
وقال : " مع أن الترمذي يصحح أحاديث لم يتابعه غيره على تصحيحها ، بل يصحح ما يضعفه غيره أو ينكره ، فإنه صحح حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ، وأحمد يضعف حديثه جداً ...وقال النسائي والدار قطني : "متروك الحديث" ، وقال الشافعي : " هو ركنٌ من أركان الكذب..." ، وقيد تساهله في التصحيح . 
وقال الذهي في ترجمة الترمذي : " جامعه قاضٍ بإمامته وحفظه وفقهه ، ولكن يترخص في قبول الأحاديث ، ولا يُشدد ، ونَفسه في التضعيف رخوٌ " .
وقال في ترجمة كثير بن عبد الله المزني : " لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي ".
وقال في ترجمة كثير بن عبد الله المزني : " قد يترخص الترمذي ، ويصحح لابن أرطاة ، وليس بجيدٍ ".
وقال في ترجمة يحيى بن اليمان : " حسنه الترمذي ، مع ضعف ثلاثة ، فلا يُغتر بتحسين الترمذي ، فعند المحاققة غالبها ضعاف ".
وفي في بعض المواطن : "حسنه الترمذي ، فلم يحسن "، ووصفه بالتساهل في عدد من مؤلفاته .
وذهب الحافظ ابن رجب ، إلى أن أبا داود أشد انتقاداً للرجال من الترمذي ، وأن النسائي أشد منهما ، ويفهم من هذا أنه يتساهل أكثر من أبي داود ، ومن النسائي . 
وكذلك أشار الحافظ ابن حجر إلى أنه يتساهل في بعض ما يحسنه .
وقال المباركفوري في حديث ضعيفٍ ؛ حسنه الترمذي : "وأما تحسين الترمذي ، فلا اعتماد عليه لما فيه من التسااهل " .
ويقول شيخنا العلامة محمد ناصر الدين الألباني : "تساهل الترمذي إنكاره مكابرةً ، لشهرته عند العلماء ، وقد تتبعت أحاديث " سننه " حديثاً حديثاً ، فكان الضعيف منها نحو ألف حديث ، أي : قريباً من خُمس مجموعها ، ليس منها ما قويتهت لمتابعٍ أو شاهدٍ ...... والتساهل من مثله ؛ لا يكون إلَّا عن اجتهادٍ وليس عن هوى أو غرض " .

الموقف الثاني : قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وتصحيح الحاكم دون تحسين الترمذي " ، فقدم تحسين الترمذي ، مع علمه بأنه لا يخلو من بعض الضعف على تصحيح الحاكم . 
وقال في بعض المواضع : "إن تصحيح الترمذي ؛ أعلى من تصحيح الحاكم ، ودون تصحيح مسلم " مع تأكيده على أن بعض ما يصححه ؛ ينازعه غيره فيه ، كما قد ينازعونه أيضاً في بعض ما يضعفه ويحسنه . 
وهذه العبارات مشعرةٌ بتقوية تحسين الترمذي وتصحيحه ، لا سيما أني لم أر ابن تيمية يصفه بالتساهل ، كما فعل مع الحاكم مثلاً . 
وممن ذهب إلى نحو ذلك الزيلعي ، فقد قال في تصحيح الحاكم : "بل تصحيحه ؛ كتحسين الترمذي ، وأحياناً يكون دونه " . 
وقال ابن حجر الهيثمي : "فإن قلت : قد صرحوا بأن عنده _ أي : الترمذي _ نوع تساهل في التصحيح ، فقد حكم بالحسن مع وجود الانقطاع في أحاديث في سننه ، وحسن فيها بعض ما تفرد به رواته ، كما صرح هو بذلك ، فإنه يورد الحديث ثم يقول عقيبه : " إنه حسنٌ غريبٌ " و "حسنٌ صحيحٌ غريبٌ ، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه ".
قلت : هذا كله لا يضره ، لأن ذلك اصطلاحٌ جديدٌ له ، ومن بلغ النهاية في الإمامة والحفظ ؛ لا ينكر عليه ابتداع اصطلاحٍ يختص به ، وحينئذٍ فلا مشاحة في الاصطلاح " .
وعقب أحمد شاكر على قول الذهبي : "بأن العلماء لا يعتمدون على تصحيح الترمذي " بقوله : "وهو غلوٌ منه ، فإن تصحيح الترمذي معتمدٌ عند العلماء " . 
ويظهر أن المعيار الذي اعتمده من وصف الترمذي بالتساهل ؛ هو معيار مخالفة كبار النقاد ، إما حكمهم على الحديث ، أو في حكمهم على أحد الرواة ، حيث رأوا الترمذي حسن ، أو صحح احاديث ، قد أعلَّها غيره من كبار أئمة النقد ، وكذلك قوى عدداً من الأحاديث في أسانيدها رواةٌ طعن فيهم ، بعض كبار الأئمة ، فاستدلوا بتلك المعارضات على تساهله . 
ولا ريب أن الترمذي ؛ قد صحح ، أو حسَّن أحاديث تكلم فيها بعض النقاد الكبار ، الذين هم أعلم بهذا الفن وأشهر منه . 
فمن ذلك ؛ أنه حكم على حديث عثمان _رضى الله عنه _ في " تخليل اللحية" ، بأنه : حسن الصحيح" ، مع علمه بان المحدثين قد تكلموا في ثبوته ، فقد قال البخاري : " إنه أصح شئٍ في الباب " فقال له الترمذي : "إنهم يتكلمون في هذا الحديث " ، ورواية عامر بن شقيق ، ضعفه أحمد بن حنبل ، وابن معينٍ ، وأبو حاتمٍ الرازي ، فلم يكتف بتحسينه كما فعل شيخه الإمام البخاري ، بل صححه مع علمه بأنه متكلمٌ فيه . 
ومن ذلك حديث "المسح على الجوربين " ، حكم عليه بأنه : " حسنٌ صحيحٌ " ، مع أن عدداً من كبار النقاد ضعفوه ، كعبد الرحمن بن مهدي ، والثوري ، وأحمد بن حنبل ، وابن معينٍ ، وعلى بن المديني ، ومسلم بن الحجاج . وكذلك صحح حديثاً في عدم وجوب العمرة في سنده : الحجاج بن أرطاة ، ونص هو نفسه : أن الشافعي ضعفه !! . 
ومن ذلك : حديث : "ليس على خائنٍ ولا منتهبٍ ، ولا مغتلس قطع " قال فيه : "حسنٌ صحيحٌ " ، وقد ضعفه أحمد بن حنبل ، وأبو حاتمٍ ، وأبو زرعة ، وغيرهم ، بسبب تدليس ابن جريج . 
ومنه أيضاً : الحديث الذي يروية معمر عن يحيى بن أبي كثير في "أفطر الحاكم والمحجوم " قال فيه : "حسنٌ صحيحٌ " ، وقد قال البخاري : "هو غير محفوظ "، وقال أبو حاتمٍ : " هذا الحديث عندي باطلٌ " . وقال إسحاق بن منصور : " هو غلطٌ ". 
وحديث : "إذا بقى من النصف من شعبان ؛ فلا تصوموا " . قال فيه : "حسنٌ صحيحٌ " ، وقد تكلم فيه : ابن مهدي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو زرعة الرازي ، والأثرم .وحديث : " ليس لابن آدم حقٌ سوى هذه الخصال : بيتٌ يسكنه ، وثوب يواري عورته ، ..." . وقال فيه : "صحيحٌ " ، وقد أنكره أحمد بن حنبل ، وغيره .
وحديث : "كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ إذا دخل الخلاء ؛ نزع خاتمه " . قال فيه: "حسنٌ صحيحٌ غريبٌ ". وقد ضعفه : أبو داود ، والنسائي ، والدار قطني ، وغير ذلك من الأمثلة المشابهة . 
ومما يدل على تساهله أيضاً : تقويته لأسانيد فيها من لا يحتج به . فمن ذلك : تصحيحه لحديثٍ فيه مجهولٌ ، علق الحافظ ابن حجرٍ عليه بقوله : "وقال الترمذي : "حسنٌ صحيحٌ " ، وكأنه صححه ؛ باعتبارات المتابعات والشواهد ، وإلَّا فأبو قابوس ، لم يرو عنه : سوى عمرو بن دينار ، ولا يعرف اسمه ، ولم يوثقه أحدٌ من المتقدمين ". وصحح حديثاً فيه : محمد مولى الميغرة بن شعبة ، وهو مجهول الحال . 
كما صحح عدداً من الأحاديث فيها رواةٌ متكلمٌ فيهم : كعلي بن زيد بن جُدعان ، والججاج بن أرطأة ، ودراج أبي السمح ، وإسماعيل بن عبد الملك ، والمفضل بن صالح ، وغيرهم كثير . 

والذي يترجح لدي ؛ إن الإمام الترمذي -رحمه الله- ، لديه تساهلٌ في تصحيح بعض الأحاديث ، كما ظهر لنا فيما سلف من أمثلة ، ولا أرى أنه كان متساهلاً بنفس القدر فيما حسنه ، لأنه أبان عن شرطه في الحسن ، أنه يشمل حديث الرواي ، الذي لا يحتج بما ينفرد به إذا سلم من الشذوذ، وكانت له شواهد . 
ولهذا ؛ لا يستقيم الاعتراض عليه ؛ بأنه حسَّن حديث فلانٍ وهو ضعيفٌ ، والأولى : الاعتراض عليه ؛ بأنه حسَّن حديثاً لم يتوفر فيه شروط الحسن التي ذكرها في تعريفه . 
ثم ينبغي أن يعلم أن وصف الترمذي بالتساهل في بعض ما يصححه أو يحسنه ، لا يعني هدر أحكامه كلها ، بزعم أنه متساهل على الدوام ، فهذا تصرف خاطئ ، لأنه كما يتساهل في بعض أحكامه ، قد يتشدد في البعض الأخر ، كما قال العلامة المعلمي اليماني -رحمه الله : " ما اشتهر أن فلاناً من الأئمة مُسهلٌ ؛ وفلاناً مُشددٌ ، ليس على إطلاقه ، فإن منهم من يسل تارةً ، ويُشدد أخرى ، بحسب أحوال مختلفة .." . 
ولا أدل على ذلك ؛ من أن الذهبي ، وهو الذي انتقد الترمذي مراراً كما تقدم ، اعتمد في توثيق بعض الرواة الذين لا كلام للنقاد فيهم على تصحيحات الترمذي .
والنتيجة التي نخرج بها من كلام بعض العلماء المحققين ، في وصف الترمذي بالتساهل ؛ بأنه يصبح من موجبات الاحتياط ؛ عدم قبول ما صححه إذا عارضه ما يوجب النظر ، إو عدم الأخذ بحكمه ، ومن ذلك ؛ مخالفة قول إمام من أئمة النقد المعروقين بالتوسط ، كعبد الرحمن بن مهدي ، وأحمد ابن حنبل ، والبخاري ، ونحوهم ، أو يكون في الحديث ؛ ما يوجب الضعف ، على مقتضى قواعد أئمة النقد . 
ويعضد ذلك قول النووي في حديثٍ قوَّاه الترمذي ، مع أن عدداً من الحفاظ ؛ تكلموا فيه، منهم: ابن مهدي ، وابن المديني ، وابن حنبل ، : "وهؤلاء هم أعلام أئمة الحديث ، مقدمون عليه ، بل كل واحدٍ من هؤلاء لو انفرد ، قدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة ".
وقال ابن رجب في حديثٍ أخر ؛ قواه الترمذي ، ومعه ابن حبان ، والحاكم ، : " وتكلم فيه ، من هو أكبر من هؤلاء وأعلم ، وقالوا : هو حديثٌ منكرٌ ، منهم : عبد الرحمن بن مهدي ، والإمام أحمد ، وأبو زرعة الرازي ...." . وهذا صحيحٌ بلا شك ، فإن هؤلاء الأئمة ، أعلم بالعلل والنقد ، من الإمام الترمذي ، وقولهم ؛ أرجح ، إلَّا أن يكون مع الترمذي حجة ظاهرةُ ، وكذلك إذا صحح حديثاً فيه ، ما يوجب الضعف ، حسب القواعد المقررة في علم الحديث ، فالراجح : هو ما تقتضية القواعد - والله أعلم- .



*[ مبحث من كتاب : "الحديث الحسن " للدكتور خالد الدريس: 3/1533-1545 ].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق