السبت، 5 مارس 2016

نبذة عن مكانة الصحيحين ومنزلتهما

كتبه/ د. خالد بن قاسم الردادي.


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لانبي بعده...وبعد:

فمن المسلَّمات عند المسلمين؛ أن للصحيحين منزلة سامية عظيمة، وأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله -عز وجل-، وقد تكاثرت وتضافرت نصوص العلماء في بيان هذا المعنى وتقريره.
قال ابن الصلاح -رحمه الله-: "جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر، وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه؛ وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يُعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع، والذي نختاره أن تلقي الأمة للخبر المنحط عن درجة التواتر بالقبول يوجب العلم النظري بصدقه، خلافًا لبعض محققي الأصوليين حيث نفى ذلك؛ بِناء على أنه لا يفيد في حق كل واحد منهم إلا الظن، وإنما قَبِله لأنه يجب عليه العمل بالظن، والظن قد يخطىء. وهذا مندفع؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ"(1). 
وقال النووي -رحمه الله-:
"اتفق العلماء -رحمهم الله- على أنّ أصح الكتب بعد القرآن"الصحيحان" البخاري ومسلم،وتلقتهما الأمة بالقبول"(2).
وقال ابن تيمية-رحمه الله-:
" وَأَمَّا كُتُبُ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفَةُ : مِثْلَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ،فَلَيْسَ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بَعْدَ الْقُرْآن "(3).
وقال أيضاً:" وَالْبُخَارِيُّ أَحْذَقُ وَأَخْبَرُ بِهَذَا الْفَنِّ مِنْ مُسْلِمٍ ; وَلِهَذَا لَا يَتَّفِقَانِ عَلَى حَدِيثٍ إلَّا يَكُونُ صَحِيحًا لَا رَيْبَ فِيهِ قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ ،ثُمَّ يَنْفَرِدُ مُسْلِمٌ فِيهِ بِأَلْفَاظِ يُعْرِضُ عَنْهَا الْبُخَارِيُّ ،وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ :إنَّهَا ضَعِيفَةٌ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ ضَعَّفَهَا : كَمِثْلِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعٍ وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ مُسْلِمٍ وَهَذَا أَكْثَرُ.."(4).
وقال العيني: "اتفق علماء الشرق والغرب، على أنه ليس بعد كتاب الله تعالى أصح من صحيحي البخاري ومسلم"(5).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:" أما الصحيحان: فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع غير سبيل المؤمنين "(6).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:" واعلم أن ما كان من الأحاديث في الصحيحين أو أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث لأنهما التزما الصحة وتلقت ما فيهما الأمة بالقبول "(7).
وقال الشيخ أحمد شاكر-رحمه الله-:
" الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين،وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمور:أن أحاديث"الصحيحين"صحيحة كلها،ليس في واحد منها مطعن أو ضعف . وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث ،على معنى أن ما نتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه .وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها,فلا يهولنك إرجاف المرجفين، وزعم الزاعمين أن في"الصحيحين"أحاديث غير صحيحة، وتتبع الأحاديث التي تكلموا فيها،وانتقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة أهل العلم،واحكم عن بينة، والله الهادي إلى سواء السبيل "(8).
ومما يدل على قدر "صحيح الإمام البخاري" ومكانته قوله هو نفسه :" صنَّفت كتابي الصحاح لست عشرة سنة ، خرَّجته من ستمائة ألف حديث ، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى "(9).
وروى الفَرْبَرِي عن البُخَارِيّ قال : " ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته "(10). 
وأما عن الدقة فقد روى الإسماعيلي عن البُخَارِيّ قوله :" لم أخرِّج في هذا الكتاب إلا صحيحا وتركت من الصحيح أكثر "(11).
وقال محمد بن يوسف نبأنا محمد بن أبي حاتم قال : سئل محمد بن إسماعيل عن خبر حديث فقال :" يا أبا فلان تراني أدلِّس ؟ تركت أنا عشرة آلاف حديث لرجل لي فيه نظر ، وتركت مثله أو أكثر منه لغيري له فيه نظر "(12).
وعن إبراهيم بن معقل النسفي أنه قال : سمعت محمد بن إسماعيل يقول :" ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح وتركت من الصحاح لحال الطول "(13).
وقال الذهبي -رحمه الله-:"وأمّا جامعه الصحيح فأجل كُتب الْإِسلَام وأفضلها بعد كتاب اللَّه تعالى"(14).
وقال ابن الأهدل، والحافظ أبو نصر الوائلي السُّجزي، وإمام الحرمين الجويني بألفاظ متقاربة : 
"أجمع أهل العلم الفقهاء وغيرهم على أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في صحيح البُخَارِيّ مما رُوِيَ عن رسول الله قد صح عنه وأن رسول الله قاله لا شك فيه ، أنه لا يحنث والمرأة بحالها في حِبالته لذا فإن صحيح البُخَارِيّ كان عند الناس - من المحققين العلماء - كالذهب الإبريز في نقاء أحاديثه متنا وسندا ، فعرف العلماء المحققون من علماء الحديث الشريف له ولمؤلفه مكانته ، إلى حَدِّ أن الحديث لو أورده البُخَارِيّ من غير سند كان محل قبول"(15).
وقال الإمام مسلم -رحمه الله- في مقدمة "صحيحه": 
" وَاعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عَرَفَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الرِّوَايَاتِ وَسَقِيمِهَا وَثِقَاتِ النَّاقِلِينَ لَهَا مِنْ الْمُتَّهَمِينَ ؛أَنْ لَا يَرْوِيَ مِنْهَا إِلَّا مَا عَرَفَ صِحَّةَ مَخَارِجِهِ وَالسِّتَارَةَ فِي نَاقِلِيهِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ مِنْهَا مَا كَانَ مِنْهَا عَنْ أَهْلِ التُّهَمِ وَالْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ "(16).
فهذه الحقيقة التي أثبتها الإمام مسلم في "مقدمة صحيحه" وأرشد إليها هي المنهج الذي سلكه في تأليف "صحيحه"، فقد بذل وسعه وشغل وقته في جمعه وترتيبه،وإليك البيان:
قال محمد الماسرجسي: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: 
" صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة "(17).
وقال ابن الشرقي سمعت مسلماً يقول: 
" ما وضعت في كتابي هذا المسند إلا بحجة ،وما أسقطت منه شيئا إلا بحجة "(18).
وقد مكث في تأليف هذا الكتاب المبارك خمسة عشرة سنة قضاها في التحري والتثبت والعناية التامة بهذا المصدر الأساس لمعرفة الحديث الصحيح، جمعاً وترتيباً ،وساعده في كتابته بعض تلاميذه طوال هذه المدة.
قال أحمد بن سلمة -تلميذ الإمام مسلم-: 
" كتبت مع مسلم -رحمه الله- في صحيحه خمس عشرة سنة وهو اثنا عشر ألف حديث "(19).
ولم يكتف الإمام مسلم -رحمه الله- بما بذله من جهود عظيمة في تأليفه بل أخذ في عرضه على جهابذة المحدثين واستشارتهم فيه:
فعن مكي بن عبدان- أحد حفاظ نيسابور- قال:
سمعت مسلما يقول: " عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي ،فكل ما أشار أن له علّة تركته ، وكل ما قال إنه صحيح وليس له علّة خرجته "(20).
وهذا منه -رحمه الله- غاية في الاحتياط والتثبت من جهة،وفي التواضع وقصد الصواب من جهة أخرى، ونتيجة لهذه العناية التامة التي تجلَّت في تلك الأدلة انشرح صدر الإمام مسلم لهذا النتاج القيم وارتاحت نفسه لذلك فأخذ يرغب الناس فيه ويؤكد أنّ كتابه عمدة يعوَّل عليه في معرفة الصحيح :
فعن مكي بن عبدان قال: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: 
" لو أنّ أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند" - يعني صحيحه- "( 21).

واعلم -وفقك الله- أنه لم يقدم على نقد أحاديث الصحيحين أو أحدها سوى أئمة نقّاد حفاظ جبال في علم العلل وسبر الروايات والرواة، مع شهادة القاصي والداني لهم بالإمامة في هذا الشأن ، ومع براعتهم في النقد ودقتهم لم يتحصل لهم سوى أحاديث معللة يسيرة في الصحيحين ، ومع هذا لم يسلّم جماعة من أئمة هذا الشأن لهم ذلك وقالوا بأنّ أكثر الانتقادات فيها ماهو غير مسلم والإيراد عليه غير وارد، وما لا جواب عنه منها نزر يسير لا يعد شيئاً في جنب الآلاف من الأحاديث الصحيحة التي اشتمل عليها "الصحيحان".

وبعد : 
فهذا نزر يسير وباقة عاطرة من أقوال الأئمة الأعلام في شأن الصحيحين، بما يُفيد الإجماع على مكانتهما عند الأمة، وجلالة قدرهما عند العلماء كافة، وعند أهل الحديث خاصة، بحيث أصبحا هما الفيصل عندهم في بيان حجة الرواية وقُوَّتِها، فإذا ذُكِرَ الحديث في كليهما أو أحدهما، أخذوه بالقبول؛ لذا جعلوا شرط البُخَارِيّ أو شرط البُخَارِيّ ومُسْلِم حجة للروايات في غيرهما، بِها ترفع مكانتها، وينفى الشك عنها، فكان مجرد شرطهما أو شرط أحدهما، شهادة إثبات وتشريف، وإعلاء مكانة ومَنْزِلَةٍ.
وقد تبيّنَ لكل ذي عالم متبحر ، أو متسلِّق متسوِّر ، وزنَهما بين أمة الإسلام ، ومقامهما بين الأئمة الأعلام ، وأظن بعد هذا كله ، والاستفاضة بالبيان ، لا يعترض معترض إلا لحاجة في نفسه ، وغرض مبطَّن في قلبه، ولا يُقبل أن يأتي أحد في هذا الزمن المتأخر، فينتهك مكانة الصحيحين المتفق عليها بين المسلمين جيلًا بعد جيل ؛ والله حسبنا ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين.

--------------

(1) "صيانة صحيح مسلم"(ص 85-86).
(2) مقدمة"شرح مسلم"(1/14)، وينظر:"تهذيب الأسماء"(1/91).
(3) "مجموع الفتاوى"(18/75).
(4) "مجموع الفتاوى"(18/20). 
(5) "عمدة القاري"(1/5).
(6) "حجة الله البالغة"(1/232).
(7) "نيل الأوطار"(1/22).
(8) "الباعث الحثيث"(ص37).
(9) "تاريخ بغداد" (2/14).
(10) "هدي الساري"(ص347).
(11) "هدي الساري"(ص7).
(12) "تاريخ بغداد" (2/25)، و"تاريخ دمشق"(52/77).
(13) "سير أعلام النبلاء"(12/415)، و"فتح المغيث" للسخاوي (1/45). 
(14) "تاريخ الإسلام"(6/140).
(15) ينظر:"علوم الحديث" لابن الصلاح(ص26)، و"صيانة صحيح مسلم"(ص 85-86).
(16) "مقدمة مسلم"(1/8).
(17) "تاريخ بغداد"(13/101)، "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/194).
(18) "صيانة صحيح مسلم"لابن الصلاح(ص98)،"تذكرة الحفاظ"(2/590)،"سير أعلام النبلاء"(12/580).
(19) "طبقات علماء الحديث"(2/288)،"تذكرة الحفاظ"(2/589)،"سير أعلام النبلاء"(12/566).
(20) "تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم"للحاكم(281)،"صيانة صحيح مسلم"(ص68،98)،"شرح النووي على صحيح مسلم"(1/15،26)،"سير أعلام النبلاء"(12/568).
(21) "صيانة صحيح مسلم"(ص68)،"شرح النووي على صحيح مسلم"(1/15)،"سير أعلام النبلاء"(12/568،579).





هناك تعليق واحد: