كلام لأبي حامد الغزالي يحتج به دعاة التحريض والفتن !
كتبه/ د. خالد بن قاسم الردادي
يحتج بعض الحركيين والحزبيين من دعاة الاعتصامات والمظاهرات ببعض النصوص والتي مافتئوا يتلمسونها علَّها تدعم منهجهم الثوري الباطل في محاولة بأسة ويائسة لتبرير بل وتجويز ما يقومون به من تأجيج وتحريض على ولاة الأمر وجواز الانكار عليهم علانية إن أخطئوا، ومن هذه النصوص مازعموه وتناقلوه بشكل واسع:
أن أبا حامد الغزالي الشافعي الصوفي (ت 505 هـ)-رحمه الله- قال :(كان من عادة علماء السلف التعرض لأخطاء السلطان والإنكار عليه غير مبالين بهلاك المهجة وفقد الأموال، لعلمهم بأنه من أفضل الجهاد والشهادة)!!
ولنا مع هذا الاحتجاج الوقفات التالية:
1- كلام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- ليس كما ذكر آنفا بل هو بنصه كما في كتابه "إحياء علوم الدين"(3/371)تحت باب (في أمر الأمراء والسلاطين ونهيهم عن المنكر):
" أما التخشين في القول -يعني للحاكم- كقوله: يا ظالم يا من لا يخاف الله، وما يجري مجراه، فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره، لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه، فهو جائز بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب، لعلمهم بأن ذلك شهادة " انتهى.
وأنت واجد الفرق بين القولين وكيف أن كلامه في جواز الانكار على الحاكم جاء مقيّداً بشرطين:
- إن كان انكاره لايحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره.
- وإذا كان المُنْكِرُ لا يخاف على نفسه الأذى والتبعة!!
فانظر كيف حُرِّفَ كلامه ليتوافق مع الأهواء !!
ثم هذا الكلام منه لعله حيث ينفع ذلك، وحيث كانت الأمراء تقبل منهم وتصغي إليهم، وحيث كانت المصلحة في تقديرهم راجحة، ومع هذا فلم يكونوا ينكرون على أمرائهم بالسبِّ والتعيير.
قال ابن رجب -رحمه الله- في"جامع العلوم والحكم"(2/248):
" إنْ خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهلَه أو جيرانه، لم ينبغِ له التعرُّض لهم حينئذ، لما فيه مِنْ تعدِّي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيلُ بنُ عياض وغيره، ومع هذا، فمتى خافَ منهم على نفسه السَّيف، أو السَّوط، أو الحبس، أو القيد، أو النَّفيَ، أو أخذ المال، أو نحوَ ذلك مِنَ الأذى، سقط أمرُهم ونهيُهم، وقد نصَّ الأئمَّةُ على ذلك، منهم: مالكٌ وأحمدُ وإسحاق وغيرهم ".
3- دلت الأحاديث والآثار أنَّ السلطان ومن في حكمه لا يُغيَّر عليه منكرُه باليد، ولا يجهر له بالنكير؛ لأنَّه إن كان عدلاً فيجب رعاية حرمته، فلا يُنصح إلاَّ سرًّا، وإن كان جائرًا فيحذر من أن يؤدِّي ذلك إلى فتح باب الفتن.
فعن شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ: أنَّ عِيَاضَ بْنُ غَنْمٍ -رضي الله عنه- قال لهشام بن حكيم-رضي الله عنه-: ألم تسمع بقول رسول الله -صلى اله عليه وسلم-: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ فَلا يُبْدِهِ عَلانِيَةً، وَلَكِنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَخْلُوا بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ " أخرجه أحمد(1533)، وابن أبي عاصم في"السنة"(1096) وهو حديث حسن .
وعن شقيق بن سلمة، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلِّمه فيما يصنع؟! فقال:" أترون أنِّي لا أكلِّمه إلاَّ أُسمعكم؟! والله، لقد كلَّمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرًا لا أحبُّ أن أكون أوَّل من فتحه " هذا لفظ مسلم(2989). وعند البخاري(3267):" إنِّي أكلِّمه في السرِّ دون أن أفتح بابًا لا أكون أوَّل من فتحه ".
قال القاضي عياض كما في"الفتح"(13/52): "مراد أسامة أنَّه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام، لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطَّف به وينصحه سرًّا، فذلك أجدر بالقبول".
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: " إذا أتيت الأمير المؤمَّر فلا تأته على رؤوس الناس " أخرجه سعيد بن منصور في"التفسير"(850) بسند حسن.
فلا ينكر على السلطان إلاَّ بالوعظ والتخويف والتذكير، بلطف ورفق، دون سِباب أو تعيير، فإن عجز عن القيام بذلك على الوجه المشروع وجب عليه الصبر والدعاء، ولم يتعرَّض له، كما نصَّ عليه العلماء، ونصوصهم كثيرة لا يتسع المقام هذا لذكرها.
قال ابن عبد البرّ في"التمهيد"(21/287): "إن لم يتمكَّن نصح السلطان فالصبر والدعاء، فإنَّهم ـ أي: علماء السلف ومن تبعهم ـ كانوا ينهون عن سبِّ الأمراء".
وعن أبي جمرة قال: لمَّا بلغني تحريق البيت خرجت إلى مكَّة، واختلفت إلى ابن عبَّاس حتَّى عرفني، واستأنس بي، فسببت الحجَّاج عند ابن عبَّاس، فقال:" لا تكن عونًا للشيطان " أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(8/104).
4- لم يكن من عادة السلف سبُّ الأمراء وتعييرهم في السرِّ، فكيف في الجهر؟! فكيف في حال الإنكار؟! بل المنقول عنهم هو النهي عن سبِّ الأمراء والنيل منهم، فإنَّ السلطان إذا كان يقود بالشرع فسبُّه مناف لما يجب على الرعيَّة من إكرامه وإجلاله وتوقيره وتعزيره، كما ورد في الأحاديث والآثار الصحيحة، ومنها :
عن زياد بن كسيب قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا أميرَنا يلبس ثياب الفسَّاق، فقال أبو بكرة: اسكت سمعت رسول الله -صلى اله عليه وسلم- يقول:« مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَهَانَهُ اللَّهُ » أخرجه الترمذي(2224)، وأحمد(20433) وصححه الألباني.
5- عامَّة ما يُروى من الأخبار والحكايات في أنَّ السلف كانوا يغلظون في الإنكار على الأمراء فليس بصحيح، وما صحَّ منها فله محامل معروفة، على أنَّ فعل الواحد والاثنين إذا لم يكن هديًا عامًّا للسلف فليس بحجَّة، فكيف إذا كان الهدي العامُّ بخلافه؟!
ثمَّ إن الذين غلطوا فوقعوا في شيء من ذلك قد تابوا وندموا وتبرَّموا مما فعلوا، والآثار في ذلك كثيرة ومنها:
عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ: لَا أُعِينُ عَلَى قَتْلِ خَلِيفَةٍ بَعْدَ عُثْمَانَ أَبَدًا، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: أَعَنْتَ عَلَى دَمِهِ ! قَالَ: « إِنِّي أَعُدُّ ذِكْرَ مَسَاوِئِهِ عَوْنًا عَلَى دَمِهِ ». أخرجه ابن سعد في"الطبقات"(3/80)، وابن أبي شيبة (12/47)بسند صحيح.
وعن هذيل بن شرحبيل قال: خطبهم معاوية -رضي الله عنه- فقال: يا أيُّها الناس، وهل كان أحد أحقَّ بهذا الأمر منِّي؟! قال: وابن عمر جالس، قال: فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: هممت أن أقول: أحقُّ بهذا الأمر منك من ضربك وأباك على الإسلام، ثمَّ خفت أن تكون كلمتي فسادًا، وذكرت ما أعدَّ الله في الجنان، فهوَّن عليَّ ما أقول. أخرجه ابن أبي شيبة(15/79)بسند صحيح.
وعن طاوس قال: أتى رجل ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- فقال: ألا أقدم على هذا السلطان فآمره وأنهاه؟ قال: لا، يكون لك فتنة... أخرجه معمر بن راشد في"الجامع"(20722)، والبيهقي في"الشعب"(7187)بسند صحيح.
وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: آمرُ السُّلطانَ بالمعروفِ وأنهاه عن المنكر؟ قال: إنْ خِفتَ أن يقتُلَك، فلا، ثم عُدْتُ، فقال لي مثلَ ذلك، ثم عدتُ، فقال لي مثلَ ذلك، وقال: إنْ كنتَ لابدَّ فاعلاً، ففيما بينَك وبينه . أخرجه سعيد بن منصور في "سننه "(846)، وابن أبي شيبة (15/74).
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنَّه وقف يومًا على باب معاوية -رضي الله عنه-، فَحَجَبَهُ لِشُغُلٍ كَانَ فِيهِ، فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: "... وَإِنَّ أَوَّلَ نِفَاقِ الْمَرْءِ طَعْنُهُ عَلَى إِمَامِهِ " أخرجه البيهقي في "الشعب"(12/29)، وابن عبد البر في "التمهيد"(21/287).
وعن عمرو البكالي قال: "إذا كان عليك أمير فأمرك بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقد حلَّ لك أن تصلِّي خلفه، وحرم عليك سبُّه" أخرجه ابن زنجويه في "الأموال"(37) بسند صحيح.
6- إنَّ نهَي السلف عن سبِّ السلطان لما يؤدِّي إليه من الفساد والشرور، وحرمانهم خيره وعدله في الوجوه الأخرى، فإنَّ سبابه مدعاة إلى الزيادة في الطغيان ونقص الخير والعدل.
وقد قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-:" ما تلاعن قومٌ قطُّ إلاَّ حقَّ عليهم القول " أخرجه معمر في"الجامع"(10/413)، ابن أبي شيبة(15/87).
وقال أبو إسحاق السبيعي: "ما سبَّ قومٌ أميرهم إلاَّ حرموا خيره" أخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن" (2/405)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(21/287).
وقال أبو مجلز: " سَبُّ الْإِمَامِ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ : حَالِقَةُ الشَّعْرِ، وَلَكِنْ حَالِقَةُ الدِّينِ" أخرجه حميد بن زنجويه في "الأموال"(34) بسند حسن.
وقال الوصَّافي: "ذُكر رجلٌ من بني مروان عند أبي جعفر محمَّد بن علي بن الحسن وأنا عنده، فقال: كفَّ عنهم، فوالله لأعمالهم لتسرع فيهم أشدَّ من السيوف المشهرة عليهم" أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(7078) بسند صحيح.
وقال سهيل بن أبي حزم: سمع محمَّد بن سيرين رجلاً يسبُّ الحجَّاج فقال: "مه أيُّها الرجل! إنَّك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قطُّ أعظمَ عليك من أعظم ذنب عمله الحجَّاج، واعلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ حكم عدل، إن أخذ من الحجَّاج لمن ظلمه شيئًا فشيئًا أخذ للحجَّاج ممن ظلمه، فلا تشغلنَّ نفسك بسبِّ أحد" أخرجه ابن أبي الدنيا في "التوبة"(41)، وأبو نعيم في"الحلية"(2/270).
وقال رِيَاحُ بْنُ عَبِيدَةَ : كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَذَكَرَ الْحَجَّاجَ فَشَتَمْتُهُ، وَوَقَعْتُ فِيهِ، قَالَ: فَنَهَانِي عُمَرُ وَقَالَ: « مَهْلًا يَا رِيَاحُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ يَظْلِمُ بِالْمَظْلَمَةِ فَلَا يَزَالُ الْمَظْلُومُ يَشْتِمُ الظَّالِمَ، وَيَنْتَقِصُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، وَيَكُونُ لِلظَّالِمِ الْفَضْلُ عَلَيْه ِ» أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(86)، وابن أبي الدنيا في"الصمت"(711).
قال ابن القيِّم في"الطرق الحكمية"(58): "من دقيق الفطنة أنَّك لا تردُّ على المطاع خطأه بين الملأ، فتحمله رتبته على نصرة الخطأ وذلك خطأ ثان، ولكن تلطَّف في إعلامه به حيث لا يشعر به غيره".
7- هذه جملة من أقوال السلف وطريقتهم كابرا عن كابر في نصح الولاة ونحوهم من الكبراء وذوي الهيئات من الوجهاء، وعدم التعرض لهم بالسب والشتم ، وأنت واجد البون الشاسع بين نهجهم وهديهم، وبين نهج أرباب الطرق البدعية التي سلكها الخوارج ومن شاكلهم من أصحاب الأحزاب السياسية وجماهيرهم التي يقودونها كما تقاد البعير، ليملأوا بها الشوارع ضجيجًا وصخبا وفتنا ومنازعة الأمر أهله! والله المستعان. وهو الموفق والمعين.
كتبه/ د. خالد بن قاسم الردادي
يحتج بعض الحركيين والحزبيين من دعاة الاعتصامات والمظاهرات ببعض النصوص والتي مافتئوا يتلمسونها علَّها تدعم منهجهم الثوري الباطل في محاولة بأسة ويائسة لتبرير بل وتجويز ما يقومون به من تأجيج وتحريض على ولاة الأمر وجواز الانكار عليهم علانية إن أخطئوا، ومن هذه النصوص مازعموه وتناقلوه بشكل واسع:
أن أبا حامد الغزالي الشافعي الصوفي (ت 505 هـ)-رحمه الله- قال :(كان من عادة علماء السلف التعرض لأخطاء السلطان والإنكار عليه غير مبالين بهلاك المهجة وفقد الأموال، لعلمهم بأنه من أفضل الجهاد والشهادة)!!
ولنا مع هذا الاحتجاج الوقفات التالية:
1- كلام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- ليس كما ذكر آنفا بل هو بنصه كما في كتابه "إحياء علوم الدين"(3/371)تحت باب (في أمر الأمراء والسلاطين ونهيهم عن المنكر):
" أما التخشين في القول -يعني للحاكم- كقوله: يا ظالم يا من لا يخاف الله، وما يجري مجراه، فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره، لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه، فهو جائز بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب، لعلمهم بأن ذلك شهادة " انتهى.
وأنت واجد الفرق بين القولين وكيف أن كلامه في جواز الانكار على الحاكم جاء مقيّداً بشرطين:
- إن كان انكاره لايحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره.
- وإذا كان المُنْكِرُ لا يخاف على نفسه الأذى والتبعة!!
فانظر كيف حُرِّفَ كلامه ليتوافق مع الأهواء !!
ثم هذا الكلام منه لعله حيث ينفع ذلك، وحيث كانت الأمراء تقبل منهم وتصغي إليهم، وحيث كانت المصلحة في تقديرهم راجحة، ومع هذا فلم يكونوا ينكرون على أمرائهم بالسبِّ والتعيير.
قال ابن رجب -رحمه الله- في"جامع العلوم والحكم"(2/248):
" إنْ خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهلَه أو جيرانه، لم ينبغِ له التعرُّض لهم حينئذ، لما فيه مِنْ تعدِّي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيلُ بنُ عياض وغيره، ومع هذا، فمتى خافَ منهم على نفسه السَّيف، أو السَّوط، أو الحبس، أو القيد، أو النَّفيَ، أو أخذ المال، أو نحوَ ذلك مِنَ الأذى، سقط أمرُهم ونهيُهم، وقد نصَّ الأئمَّةُ على ذلك، منهم: مالكٌ وأحمدُ وإسحاق وغيرهم ".
3- دلت الأحاديث والآثار أنَّ السلطان ومن في حكمه لا يُغيَّر عليه منكرُه باليد، ولا يجهر له بالنكير؛ لأنَّه إن كان عدلاً فيجب رعاية حرمته، فلا يُنصح إلاَّ سرًّا، وإن كان جائرًا فيحذر من أن يؤدِّي ذلك إلى فتح باب الفتن.
فعن شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ: أنَّ عِيَاضَ بْنُ غَنْمٍ -رضي الله عنه- قال لهشام بن حكيم-رضي الله عنه-: ألم تسمع بقول رسول الله -صلى اله عليه وسلم-: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ فَلا يُبْدِهِ عَلانِيَةً، وَلَكِنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَخْلُوا بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ " أخرجه أحمد(1533)، وابن أبي عاصم في"السنة"(1096) وهو حديث حسن .
وعن شقيق بن سلمة، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلِّمه فيما يصنع؟! فقال:" أترون أنِّي لا أكلِّمه إلاَّ أُسمعكم؟! والله، لقد كلَّمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرًا لا أحبُّ أن أكون أوَّل من فتحه " هذا لفظ مسلم(2989). وعند البخاري(3267):" إنِّي أكلِّمه في السرِّ دون أن أفتح بابًا لا أكون أوَّل من فتحه ".
قال القاضي عياض كما في"الفتح"(13/52): "مراد أسامة أنَّه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام، لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطَّف به وينصحه سرًّا، فذلك أجدر بالقبول".
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: " إذا أتيت الأمير المؤمَّر فلا تأته على رؤوس الناس " أخرجه سعيد بن منصور في"التفسير"(850) بسند حسن.
فلا ينكر على السلطان إلاَّ بالوعظ والتخويف والتذكير، بلطف ورفق، دون سِباب أو تعيير، فإن عجز عن القيام بذلك على الوجه المشروع وجب عليه الصبر والدعاء، ولم يتعرَّض له، كما نصَّ عليه العلماء، ونصوصهم كثيرة لا يتسع المقام هذا لذكرها.
قال ابن عبد البرّ في"التمهيد"(21/287): "إن لم يتمكَّن نصح السلطان فالصبر والدعاء، فإنَّهم ـ أي: علماء السلف ومن تبعهم ـ كانوا ينهون عن سبِّ الأمراء".
وعن أبي جمرة قال: لمَّا بلغني تحريق البيت خرجت إلى مكَّة، واختلفت إلى ابن عبَّاس حتَّى عرفني، واستأنس بي، فسببت الحجَّاج عند ابن عبَّاس، فقال:" لا تكن عونًا للشيطان " أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(8/104).
4- لم يكن من عادة السلف سبُّ الأمراء وتعييرهم في السرِّ، فكيف في الجهر؟! فكيف في حال الإنكار؟! بل المنقول عنهم هو النهي عن سبِّ الأمراء والنيل منهم، فإنَّ السلطان إذا كان يقود بالشرع فسبُّه مناف لما يجب على الرعيَّة من إكرامه وإجلاله وتوقيره وتعزيره، كما ورد في الأحاديث والآثار الصحيحة، ومنها :
عن زياد بن كسيب قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا أميرَنا يلبس ثياب الفسَّاق، فقال أبو بكرة: اسكت سمعت رسول الله -صلى اله عليه وسلم- يقول:« مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَهَانَهُ اللَّهُ » أخرجه الترمذي(2224)، وأحمد(20433) وصححه الألباني.
5- عامَّة ما يُروى من الأخبار والحكايات في أنَّ السلف كانوا يغلظون في الإنكار على الأمراء فليس بصحيح، وما صحَّ منها فله محامل معروفة، على أنَّ فعل الواحد والاثنين إذا لم يكن هديًا عامًّا للسلف فليس بحجَّة، فكيف إذا كان الهدي العامُّ بخلافه؟!
ثمَّ إن الذين غلطوا فوقعوا في شيء من ذلك قد تابوا وندموا وتبرَّموا مما فعلوا، والآثار في ذلك كثيرة ومنها:
عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ: لَا أُعِينُ عَلَى قَتْلِ خَلِيفَةٍ بَعْدَ عُثْمَانَ أَبَدًا، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: أَعَنْتَ عَلَى دَمِهِ ! قَالَ: « إِنِّي أَعُدُّ ذِكْرَ مَسَاوِئِهِ عَوْنًا عَلَى دَمِهِ ». أخرجه ابن سعد في"الطبقات"(3/80)، وابن أبي شيبة (12/47)بسند صحيح.
وعن هذيل بن شرحبيل قال: خطبهم معاوية -رضي الله عنه- فقال: يا أيُّها الناس، وهل كان أحد أحقَّ بهذا الأمر منِّي؟! قال: وابن عمر جالس، قال: فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: هممت أن أقول: أحقُّ بهذا الأمر منك من ضربك وأباك على الإسلام، ثمَّ خفت أن تكون كلمتي فسادًا، وذكرت ما أعدَّ الله في الجنان، فهوَّن عليَّ ما أقول. أخرجه ابن أبي شيبة(15/79)بسند صحيح.
وعن طاوس قال: أتى رجل ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- فقال: ألا أقدم على هذا السلطان فآمره وأنهاه؟ قال: لا، يكون لك فتنة... أخرجه معمر بن راشد في"الجامع"(20722)، والبيهقي في"الشعب"(7187)بسند صحيح.
وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: آمرُ السُّلطانَ بالمعروفِ وأنهاه عن المنكر؟ قال: إنْ خِفتَ أن يقتُلَك، فلا، ثم عُدْتُ، فقال لي مثلَ ذلك، ثم عدتُ، فقال لي مثلَ ذلك، وقال: إنْ كنتَ لابدَّ فاعلاً، ففيما بينَك وبينه . أخرجه سعيد بن منصور في "سننه "(846)، وابن أبي شيبة (15/74).
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنَّه وقف يومًا على باب معاوية -رضي الله عنه-، فَحَجَبَهُ لِشُغُلٍ كَانَ فِيهِ، فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: "... وَإِنَّ أَوَّلَ نِفَاقِ الْمَرْءِ طَعْنُهُ عَلَى إِمَامِهِ " أخرجه البيهقي في "الشعب"(12/29)، وابن عبد البر في "التمهيد"(21/287).
وعن عمرو البكالي قال: "إذا كان عليك أمير فأمرك بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقد حلَّ لك أن تصلِّي خلفه، وحرم عليك سبُّه" أخرجه ابن زنجويه في "الأموال"(37) بسند صحيح.
6- إنَّ نهَي السلف عن سبِّ السلطان لما يؤدِّي إليه من الفساد والشرور، وحرمانهم خيره وعدله في الوجوه الأخرى، فإنَّ سبابه مدعاة إلى الزيادة في الطغيان ونقص الخير والعدل.
وقد قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-:" ما تلاعن قومٌ قطُّ إلاَّ حقَّ عليهم القول " أخرجه معمر في"الجامع"(10/413)، ابن أبي شيبة(15/87).
وقال أبو إسحاق السبيعي: "ما سبَّ قومٌ أميرهم إلاَّ حرموا خيره" أخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن" (2/405)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(21/287).
وقال أبو مجلز: " سَبُّ الْإِمَامِ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ : حَالِقَةُ الشَّعْرِ، وَلَكِنْ حَالِقَةُ الدِّينِ" أخرجه حميد بن زنجويه في "الأموال"(34) بسند حسن.
وقال الوصَّافي: "ذُكر رجلٌ من بني مروان عند أبي جعفر محمَّد بن علي بن الحسن وأنا عنده، فقال: كفَّ عنهم، فوالله لأعمالهم لتسرع فيهم أشدَّ من السيوف المشهرة عليهم" أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(7078) بسند صحيح.
وقال سهيل بن أبي حزم: سمع محمَّد بن سيرين رجلاً يسبُّ الحجَّاج فقال: "مه أيُّها الرجل! إنَّك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قطُّ أعظمَ عليك من أعظم ذنب عمله الحجَّاج، واعلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ حكم عدل، إن أخذ من الحجَّاج لمن ظلمه شيئًا فشيئًا أخذ للحجَّاج ممن ظلمه، فلا تشغلنَّ نفسك بسبِّ أحد" أخرجه ابن أبي الدنيا في "التوبة"(41)، وأبو نعيم في"الحلية"(2/270).
وقال رِيَاحُ بْنُ عَبِيدَةَ : كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَذَكَرَ الْحَجَّاجَ فَشَتَمْتُهُ، وَوَقَعْتُ فِيهِ، قَالَ: فَنَهَانِي عُمَرُ وَقَالَ: « مَهْلًا يَا رِيَاحُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ يَظْلِمُ بِالْمَظْلَمَةِ فَلَا يَزَالُ الْمَظْلُومُ يَشْتِمُ الظَّالِمَ، وَيَنْتَقِصُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، وَيَكُونُ لِلظَّالِمِ الْفَضْلُ عَلَيْه ِ» أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(86)، وابن أبي الدنيا في"الصمت"(711).
قال ابن القيِّم في"الطرق الحكمية"(58): "من دقيق الفطنة أنَّك لا تردُّ على المطاع خطأه بين الملأ، فتحمله رتبته على نصرة الخطأ وذلك خطأ ثان، ولكن تلطَّف في إعلامه به حيث لا يشعر به غيره".
7- هذه جملة من أقوال السلف وطريقتهم كابرا عن كابر في نصح الولاة ونحوهم من الكبراء وذوي الهيئات من الوجهاء، وعدم التعرض لهم بالسب والشتم ، وأنت واجد البون الشاسع بين نهجهم وهديهم، وبين نهج أرباب الطرق البدعية التي سلكها الخوارج ومن شاكلهم من أصحاب الأحزاب السياسية وجماهيرهم التي يقودونها كما تقاد البعير، ليملأوا بها الشوارع ضجيجًا وصخبا وفتنا ومنازعة الأمر أهله! والله المستعان. وهو الموفق والمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق