السبت، 5 مارس 2016

& من أسند فقد أحال ومن أحال فقد برئ!

( من أسند لك فقد حمَّلك...من أسند لك فقد أحالك ...من أسند فقد أحال ...من أسند فقد برئت ذمته أو عهدته ... من أسند فقد أحال ومن أحال فقد برئ )!! 
عبارات مختلفة الألفاظ متفقة المعنى، يقولها أهل الحديث إعذارًا للسابقين من المصنفين الذين جمعوا الروايات فكان فيها الصحيح والحسن ودون ذلك.
والمعنى: أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة والجرح ، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة وبرئت ذمته.
وقد طعن على بعض أئمة الحديث أنهم خرجوا أحاديث الضعفاء والمتروكين والكذابين في كتبهم دون بيان لعللها، كما طعن به مثلاً على الحافظ أبي نعيم الأصبهاني وغيره.
وليس هذا في التحقيق مما يجرح به، وإن كان خلاف الأولى، وذلك من أجل أن الواحد من هؤلاء المخرجين يسند أحاديثه تلك، ومن أسند فقد أحال!
قال الإمام الألباني -رحمه الله- في تحقيقه لكتاب "اقتضاء العلم العمل"(ص 4):
"إن القاعدة عند علماء الحديث أن المحدث إذا ساق الحديث بسنده ، فقد برئت عهدته منه ، ولا مسؤولية عليه في روايته ، ما دام قد قرن معه الوسيلة التي تُمكِّن العالم من معرفة ما إذا كان الحديث صحيحًا أو غير صحيح ، ألا وهي الإسناد "ا.هـ.
وأول من ذكر هذه القاعدة في كتاب – فيما وقفت عليه – الإمام أبو عمر ابن عبد البر (ت : 463 هـ )-رحمه الله- حيث قال في "التمهيد "(1/3):" وقالت طائفة من أصحابنا مراسيل الثقات أولى من المسندات ؛ واعتلوا بأن ( من أسند لك فقد أحالك ) على البحث عن أحوال من سماه لك ؛ ومن أرسل من الأئمة حديثًا مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك على صحته وكفاك النظر "ا.هـ .
وهذا يدل على أن العبارة كانت مستخدمة قبله ، فهي قاعدة في الإسناد قديمة ؛ وقد استعملها العلماء في كتبهم إما بلفظها أو بمعناها ، وجاء - أيضًا - عنهم ما يدل على نقدهم للمرويات ، وإعذار من يروي بالإسناد ، فمن ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في"قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"(ص131):
" وما يرويه أبو بكر الخطيب ، وأبو الفضل بن ناصر ، وأبو موسى المديني ، وأبو القاسم ابن عساكر ، والحافظ عبد الغني ، وأمثالهم ممن لهم معرفة بالحديث ، فإنهم كثيرًا ما يروون في تصانيفهم ما رُوي مطلقًا على عادتهم الجارية ؛ ليعرف ما رُوي في ذلك الباب ، لا ليحتج بكل ما رُوي ، وقد يتكلم أحدهم على الحديث ، ويقول : غريب ، ومنكر ، وضعيف ، وقد لا يتكلم ".
وقال -أيضاً- في"الاستقامة"(2/67): 
"فالموجود من كتب الرقائق والتصوف ، فيها الصحيح ، وفيها الضعيف ، وفيها الموضوع ؛ وهذا أمر متفق عليه بين جميع المسلمين ، لا يتنازعون في أن هذه الكتب فيها هذا ، وفيها هذا ، بل نفس الكتب المصنفة في الحديث والآثار ، فيها هذا وهذا ، وكذلك الكتب المصنفة في التفسير ، فيها هذا وهذا ، مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولات ، وفي كتبهم هذا وهذا ، فكيف غيرهم ؟
والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه ، أو التصوف ، أو الحديث ، ويروون هذا تارة ، لأنهم لم يعلموا أنه كذب ، وهو الغالب على أهل الدين ، فإنهم لا يحتجون بما يعلمون أنه كذب ، وتارة يذكرونه وإن علموا أنه كذب ، إذ قصدهم رواية ما رُوي في ذلك الباب .
ورواية الأحاديث المكذوبة ، مع بيان أنها كذب ، جائز ، وأما روايتها - مع الإمساك عن ذلك - رواية عمل فإنه حرام عند العلماء ، كما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال :( من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب ، فهو أحد الكاذبين ) ؛ وقد فعل ذلك كثير من العلماء متأولين أنهم لم يكذبوا ، وإنما نقلوا ما رواه غيرهم ، وهذا يسهل إذ رووه ليعرف أنه رُوي ، لا لأجل العمل به والاعتماد عليه ". 
وقال الحافظ العراقي -رحمه الله - في"شرح التبصرة والتذكرة"(1/424)بعد أن ذكر حديثًا باطلاً طويلًا روي عن أُبي بن كعب-رضي الله عنه-في فضائل القرآن سورةً سورة :
" وكل مَنْ أودع حديث أُبَيٍّ - المذكور - تفسيره؛ كالواحدي، والثَّعْلبي والزمخشري مخطئ في ذلك؛ لكن مَنْ أبرز إسناده منهم، كالثعلبي، والواحدي فهو أبسط لعذره، إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه من غير بيانه، كما تقدّم، وأما مَنْ لم يُبْرِزْ سنَده، وأورده بصيغة الجزم فخطؤُه أفحش، كالزمخشري ".
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله - معلقًا على كلام شيخه العراقي في"النكت على ابن الصلاح"(1/128):
" قلت : والاكتفاء بالحوالة على النظر في الإسناد ، طريقة معروفة لكثير من المحدثين ، وعليها ما صدر من كثير منهم ، من إيراد الأحاديث الساقطة معرضين عن بيانها صريحًا ، وقد وقع هذا لجماعة من كبار الأئمة ، وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان ".
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله -أيضاً أثناء ترجمته للطبراني في"لسان الميزان"(3/74):
" وقد عاب عليه إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي جمعه لأحاديث الأفراد مع ما فيها من النكارة الشديدة والموضوعات ، وفي بعضها القدح في كثير من القدماء من الصحابة وغيرهم ؛ وهذا أمر لا يختص به الطبراني ، فلا معنى لإفراده باللوم ؛ بل أكثر المحدثين في الأعصار الماضية - من سنة مائتين وهلمَّ جرَّا - إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته ؛ والله اعلم ".

والله الموفق والمعين.

وكتبه / د.خالد بن قاسم الردادي 
عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية
بالمدينة النبوية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق