السبت، 5 مارس 2016

علاج الوسوسة في الصلاة


كتبه/ د.خالد بن قاسم الردادي


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد:

يشتكي أكثر الناس من كثرة الوساوس وخاصة في أثناء الصﻻة حتى أفسدت عليهم عبادتهم واذهبت الخشوع فيها والتلذذ بها؛ وراح أكثرهم يلتمس دواءًا لهذا الداء العضال !
وﻻ ريب أن خير علاج للوسوسة هو الإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، ودفعها؛ لأنَّ التمسُّك بها اتباع للشيطان؛ فيجب إبعادها عن النفس وإهمالها، وعدم الالتفات إليها، أو الاستسلام لها. 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في"مجموع الفتاوى"(22/608): "والوسواس يعرض لكل مَن توجَّه إلى الله، فينبغي للعبد أن يَثبُت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر؛ لأنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان؛ {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، وكلما أراد العبد توجهًا إلى الله بقلبه، جاء الوسواس من أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله أراد قطْعَ الطريق عليه" اهـ.
والتفات القلب في الصلاة بالوساوس لم يَسْلم منه أحد، وما أَصعبَ معالجتَها وأقلَّ السالم منها، وهو اختلاسٌ يَختلسه الشيطان من صلاة العبد، وقد أرشدَنا النبِيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- للدواء الناجع، في أحاديث نبوية، منها:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :« إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فِي صَلاَتِهِ، فَيَلْبِسُ عَلَيْهِ صَلاَتَهُ، حَتَّى لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ » أخرجه البخاري رقم(1131)، ومسلم رقم(1202).
وعن عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه -: قال: « قلتُ: يا رسولَ الله، إِن الشيطانَ قد حَالَ بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يُلَبِّسُهَا عليَّ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: ذاك شيطان يقال له: خِنْزَب، فإِذا أحْسَسْتَهُ فتعوَّذ بالله منه، واتْفُلْ عن يسارك ثلاثاً، ففعلتُ ذلك فأذْهَبَهُ اللهُ عني » . أخرجه مسلم رقم (2203). 
قال الإمام النووي -رحمه الله-:" أما خِنْزَِب فبخاء معجمة مكسورة ثم نون ساكنة ثم زاي مكسورة ومفتوحة ، .. وفي هذا الحديث استحباب التعوذ من الشيطان عن وسوسته مع التفل عن اليسار ثلاثا ، ومعنى يلبسها أي يخلطها ويشككني فيها وهو بفتح أوله وكسر ثالثه ، ومعنى حال بيني وبينها أي نكدني فيه ، ومعنى لذتها ، والفراغ للخشوع فيها " [ "شرح النووي على صحيح مسلم"(14/190) ].

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في"إغاثة اللهفان"(1/126):" ومن كيده (يعني الشيطان)الذي بلغ به من الجهال ما بلغ: الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر وتنقيصه ".

ومُدَافَعَةُ حَدِيثِ النَّفْسِ فِي الصَّلاَةِ مَشْرُوعَةٌ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:" مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يَسْهُو فِيهِمَا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" أخرجه أبو داود رقم (905).

وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِلَفْظِ:" ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " أخرجه البخاري رقم(159)، ومسلم رقم(226).

قَال الحافظ ابْنُ حَجَرٍ -رحمه الله- في"فتح الباري"(1/260):" قَوْلُهُ:( لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ ) الْمُرَادُ بِهِ مَا تَسْتَرْسِل النَّفْسُ مَعَهُ، وَيُمْكِنُ الْمَرْءَ قَطْعُهُ، فَأَمَّا مَا يَهْجُمُ مِنَ الْخَطَرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ وَيَتَعَذَّرُ دَفْعُهُ فَذَلِكَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، .. ".

ومما يعين على طرد الوسوسة وذهاب وشرود الذهن في الصلاة ما يأتي:
1)- إفراغ القلب قبل الإحرام بالصَّلاة من الشواغل الدُّنيوية، والحاجات البدَنيَّة، وكل ما يَهُمُّ، مع المُجاهدة لكلِّ ما يرِدُ على القلب ، وقطع الطريق على الأسباب الشاغلة التي هي أصل الدواء، فلا تترك لنفسك شُغْلاً يلتفت إليه خاطرُك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى"(22/607): "وأمَّا زوال العارض فهو الاجتهاد في دفع ما يُشغِل القلب من تفكُّر الإنسان فيما لا يُعِينُه، وَتَدَبُّر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصَّلاة، وهذا كل عبد بِحَسبه؛ فإنَّ كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والمكروهات التي ينصرف القلب إلى دفعها".
2)- حضور الذِّهن والفكر أثناء الصلاة، وعدم الانسياق وراء الخواطر التي ترد على المصلي أثناء الصلاة.
3)- تدبُّر ما تقرؤه حالَ الصلاة من القرآن وما تسمعه؛ قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وعليك استحضار أنك تخاطب ربَّك سبحانه وتعالى وتناجيه.
4)- تقديم اليقين على الشك.
5)- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم .
6)- التفل عن اليسار ثلاثا.
7)- فإن عاد الشيطان للوسوسة، فعد لفعل ذلك.
8)- إنْ لُبِسَ عليه يسجد سجود السهو.
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (5/ 226): " علاج الوسوسة بكثرة ذكر الله جل وعلا وسؤاله العافية من ذلك، وعدم الاستسلام للوسوسة، فيجب عليه رفضها، فإذا تطهر طهارة صغرى أو كبرى وحصلت عنده وسوسة في أنه لم يغسل رأسه مثلا فلا يلتفت إلى ذلك بل يبني على أنه غسله وهكذا في سائر أعماله يرفض الاستجابة للوسوسة؛ لأنها من الشيطان، ويكثر من الاستعاذة بالله من الشيطان؛ لأنه الوسواس الخناس " انتهى.

وينبغي لمن ابتلي بكثرة الوساوس أَن يرجع إلى رسالة الإِمام الموفق ابن قدامة -رحمه الله- في "ذم الموسوسين" فإِن فيها من التنفير عن الوسوسة ما يكفي ويشفي، وقد اعتمد عليها الإِمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "كتاب إِغاثة اللهفان" وعلق عليها تعليقات لا يستغنى عنها.

نسأل الله تعالى أن يعافينا ويجنبنا من هذه الوساوس، ويعصمنا من كيد الشيطان ونجواه، وأن يبعد عنا الهم والحزن، ويوفقنا للعمل بطاعته، إنه سميع قريب مجيب، وهو الموفق والمعين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق