الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

 جريمة الاعتداء على السفراء من المعاهدين


الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لانبي بعده...وبعد:
فلا ريب أن الاعتداء على السفراء أو على أشخاص في السفارات ومحاولة قتلهم أو اغتيالهم ممن بينهم وبين المسلمين عهد أو أمان أو ذمة محرم لا يجوز بأي حجة كانت ماداموا قد دخلوا البلد بعقد هدنة وأمان، بل يعد هذا الصنيع  من الغدر والخيانة ونكث العهود والمواثيق، فقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لِيُوجَدَ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًّا». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ رقم(3166).
وعن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من قتل مُعَاهَداً في غيرِ كُنْهِهِ، حرَّم الله عليه الجنة» . أخرجه أبو داود رقم(2670)، والنسائي (8/24) بإسناد حسن.
والعهد الذي يعطي لهم: الأصل العمل به والوفاء به حتى لو كان معطيه فرداً ليس أميراً فأحرى إذا كان أميرا، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:  «المسلمون تتكافأُ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، ويُجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يَرُدُّ مُشِدُّهم على مُضْعِفهم ومُتَسَرِّيهم على قاعدهم، ولا يقتَل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» . أخرجه أبو داودرقم(4531)بإسناد حسن.
قال الصنعاني في "السبل"(2/489): "والأحاديث دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم ذكر أو أنثى حر أم عبد مأذون أو غير مأذون لقوله أدناهم، فإنه شامل لكل وضيع، وتعلم صحة أمان الشريف بالأولى، وعلى هذا جمهور العلماء..".
وهذا من محاسن الإسلام، وقد أخرج عبد الرزاق في "المصنف" رقم(9436): عن معمر، عن عاصم بن سليمان، عن فضيل الرقاشي قال:
 شهدت قرية من قرى فارس يقال لها شاهرتا فحاصرناها شهرا، حتى إذا كان ذات يوم وطمعنا أن نصبحهم، انصرفنا عنهم عند المقيل، فتخلف عبد منا فاستأمنوه، فكتب إليهم في سهم أمانا، ثم رمى به إليهم، فلما رجعنا إليهم خرجوا في ثيابهم، ووضعوا أسلحتهم فقلنا: ما شأنكم؟ فقالوا: أمنتمونا وأخرجوا إلينا السهم فيه كتاب أمانهم فقلنا: هذا عبد والعبد لا يقدر على شيء قالوا: لا ندري عبدكم من حركم، وقد خرجوا بأمان، قلنا: فارجعوا بأمان قالوا: لا نرجع إليه أبدا.
 فكتبنا إلى عمر بعض قصتهم، فكتب عمر: «أن العبد المسلم من المسلمين أمانه أمانهم» قال: ففاتنا ما كنا أشرفنا عليه من غنائمهم.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(12/454) وزاد: "فأجاز عمر أمانه". 
وحق الأمان الذي كان يتمتع به الرسل و السفراء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- و الذي نسميه اليوم "الحصانة" تمتع به حتى رسل مسيلمة الكذاب: 
فعن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي عن أبيه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- قال - حين قرأ كتابَ مُسَيْلِمةَ إليه - للرسل: «فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: أمَا واللهِ، لولا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أعناقَكما» أخرجه أبو داودرقم(2761)، وأحمد رقم(15989) وهو حديث صحيح.
فبيَّن بهذا القول أن هذا الأمان جرى عليه العرف عند الناس أو عند الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأن الإسلام أكده وأيده.
ومن المعلوم أنه إذا لم يأمن الرسل و السفراء على أنفسهم لم يمكنهم أداء مهامهم، ولهذا قال السرخسي في "المبسوط"(10/92):"إذا وجد الحربي في دار الإسلام، فقال: أنا رسول، فإن أخرج كتابا عرف أنه كتاب ملكهم كان آمنا حتى يبلغ رسالته ويرجع؛ لأن الرسل لم تزل آمنة في الجاهلية والإسلام؛ وهذا لأن أمر القتال أو الصلح لا يتم إلا بالرسل؛ فلابد من أمان الرسل ليتوصل إلى المقصود".
ولقد أوجب علينا الإسلام الوفاء بالعهد، والتزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعهوده، امتثالا لقوله تعالى :{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}.
و شدَّد الوعيد في نقض العهد حتى نفى الدين عمن لا عهد له، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا خَطَبَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ قَالَ: "لاَ إيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ" أخرجه أحمد رقم(12383). وقال البغوي: "هذا حديث حسن". وصححه ابن حبان في "صحيحه" برقم (194).
وعليه فيجب على المسلمين الوفاء بالعهد الذي تعطيه بلدانهم حكامهم للأجانب،وهذا من اختصاص الحاكم ولا يعود إلى فئة معينة.
وبه يعلم أن سفراء البلدان الأجنبية في بلادنا من المعاهدين الذين لا يجوز ظلمهم فضلا عن قتلهم ،وليس لأحد أن ينبذ إليهم عهدهم إلا الدولة ،وحتى في هذه الحالة لا يجوز قتلهم ولا حبسهم، ويطلب منهم مغادرة البلاد ،وتحدد لهم مهلة، والله الموفق والمعين.

الاثنين، 10 أكتوبر 2016

مشروعية صيام يوم قبل و بعد يوم عاشوراء معه:

الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد.

فقد انتشر في هذه الأيام فتاوى غريبة تنقل عبر شبكات التواصل تشكك الناس في ماجرت عليه فتوى علماء هذه البلاد -حرسها الله- الكبار من القول بجواز صيام يوم قبل و بعد يوم عاشوراء معه وأن هذا لا أصل له بل وبالغ بعضهم فعد صيام التاسع والعاشر والحادي عشر معاً من البدع المحدثة!
فأردت في هذه العجالة أن أبين خطأ هذا القول وتعسّف قائليه وإنكارهم لما قد صح به الدليل وقال به الراسخون، فأقول مستعيناً بالله:

أولاً- متن الحديث الوارد في هذا ولفظه:

عن عبدالله بْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا عَاشُورَاءَ وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا».
وفي لفظ: «صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ؛ صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا، أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا».
وفي لفظ:« لَئِنْ بَقِيتُ لآمُرَنَّ بِصِيَامِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ يَوْمٍ بَعْدَهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ».


ثانياً- تخريجه ودراسة أسانيده:

أخرجه أحمد رقم(2154)، وابن خزيمة رقم(2095)، وابن عدي في "الكامل"(3/88)، وابن بشران في "أماليه" رقم(475) والبيهقي في "سنن الكبرى"(4/ 287)، وفي "فضائل الأوقات" رقم(243)، وأبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب" رقم(1872)من طريق هشيم بن بشير.
والحميدي في "مسنده" رقم(485)-ومن طريقه البيهقي(4/287)- عن سفيان بن عيينة.
وابن عدي (3/ 89) من طريق الحارث بن النعمان بن سالم عن سفيان به.
والبزار في "مسنده" رقم(1052-كشف الاستار)عن عيسى.
والطبري في "تهذيب الآثار" (مسند عمر 1/ 387) والطحاوي في "شرح المعاني" (2/ 78)من طريق أبي شهاب عبد ربه بن نافع الحناط الصغير.
والطحاوي (2/ 78)من طريق محمد بن عمران بن أبي ليلى.
جميعهم (هشيم، وسفيان، وعيسى، وأبو شهاب، ومحمد بن عمران ) عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده ابن عباس، فذكره.
وهو عندهم -إلَّا البزّار- بالتخيير. "صوموا قبله يومًا أو بعده ... ".

قال البزار: "قد رُوي عن ابن عباس من غير وجهٍ، ولا نعلم روى: (صوموا قبله يومًا أو بعده) إلَّا داود بن علي عن أبيه عن ابن عباس، تفرّد بها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". أهـ.

وقال الهيثمي في "المجمع" (3/ 188 - 189): "وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام". أهـ.
وهو صدوق سيّء الحفظ جدًا كما في "التقريب".

وقال البوصيري في"اتحاف الخيرة"(3/81):"رَوَاهُ مُسَدَّدٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، لِضَعْفِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، لَكِنْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ فَقَدْ تَابِعُهُ عَلَيْهِ صَالِحُ بْنُ أَبِي صَالِحِ بْنِ حَيِّ".
ومتابعة ابن حي أخرجها ابن عدي  في "الكامل" (3/ 89)من طريق عَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ الْبَحْرَانِيُّ، عن سفيان بن عيينة عنه.

وقال الغماري في "المداوي"(4/348) وهو يتعقب تضعيف المناوي للحديث:
"كلام الهيثمى لا يدل على أن الحديث غير صحيح، فإن ابن أبي ليلى المذكور فقيه عالم مجتهد، وإنما كان سئ الحفظ فوقعت المناكير في حديثه، وليس هذا الخبر مما يهم فيه الإنسان لقلة ألفاظه وصغر متنه، وأما داود بن على فهو ثقة أيضًا، قال عثمان الدارمى عن ابن معين: شيخ هاشمى إنما يحدث بحديث واحد، قال ابن عدى: أظن الحديث في عاشوراء، وقد روى غير هذا بضعة عشر حديثا، وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن عدى: عندى أنه لا بأس بروايته عن أبيه عن جده، فهذا توثيق للرجلين يجعل الحديث حسنا، فإذا وجد له شاهد ارتفع إلى الصحيح، ولهذا الحديث شواهد متعددة يطول بذكرها الكتاب.
وأما قول الذهبى: ليس بحجة فمراده أنه ليس من أهل الرواية والإتقان لها ولا من أهل هذا الشان لأنه كان أميرًا حاكمًا كما ليس من شأنه الرواية، ولذلك عقب ذلك بقوله: قال ابن معين أرجو أنه لا يكذب، إنما يحدث بحديث واحد ثم ذكر الذهبى الحديث لا على أنه من منكراته، وإنما ذكره تبيينًا لما نص عليه ابن معين من أنه ليس له إلا حديث واحدٌ، ثم ذكر أحاديث أخرى مما استدركه ابن عدى، وبين أن ابن أبي ليلى توبع عليه عن داود، فقال: وروى الحسن بن حى عن داود نحوًا من هذا".
وقد صح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله، لكن دون ذكر الحادي عشر، وله عنه طريقان:
الأول: يرويه ابن جريج أخبرني عطاء أنّه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء: خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر.
أخرجه عبد الرزاق رقم(7839) عن ابن جريج به.
ومن طريقه أخرجه البيهقي (4/ 287) وفي "فضائل الأوقات" رقم(242).
وأخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" (2/ 78) من طريق رَوح بن عبادة البصري ثنا ابن جريج به. وإسناده صحيح.
وأخرجه الطبري في "تهذيب الآثار" (مسند عمر 1/ 392) بإسناد صحيح عن أبي كُريب محمد بن العلاء الهَمْداني ثنا ابن عُيينة عن عمرو بن دينار سمع عطاء يقول: سمعت ابن عباس يقول: فذكره.
الثاني: يرويه سفيان بن عيينة سمع عبيد الله بن أبي يزيد يقول: سمعت ابن عباس يقول: صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود.
أخرجه الشافعي -كما في "التلخيص" (2/ 214)- عن سفيان به.
وقد صح -أيضاً- عن ابن عباس أنه كان يصوم يوما قبله وبعده:
أخرج الطبري في "تهذيب الآثار"(660-مسند عمر بن الخطاب)من طريق وكيع،  عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: « أنه كان يصوم قبله يوما وبعده يوما ». وإسناده صحيح. وعبد الملك بن جريج ثقة ثبت فقيه، وكان يدلس ويرسل، وهو أثبت الناس في عطاء بن أبي رباح لا يدلس عنه، قال أحمد بن حنبل :"عمرو بن دينار، وابن جريج أثبت الناس في عطاء". وقال يحيى القطان عن ابن جريج قال:"إذا قلتُ: قال عطاء فأنا سمعته منه، وإن لم أقل سمعتُ". ينظر:"تهذيب التهذيب"(6/402).
وأخرج الطبري في "تهذيب الآثار"(661-مسند عمر بن الخطاب) من طريق ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : « أنه كان يصوم في السفر يوم عاشوراء ، ويوالي بين اليومين فرقا أن يفوته ».
وإسناده لا بأس به، فيه شعبة بن دينار مولى ابن عباس -رضي الله عنهما-:
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: "ما أرى به بأسا". وقال الدوري عن ابن معين: "ليس به بأس". وضعفه مالك والنسائي وأبو زرعة وأبو حاتم، وقال ابن عدي:" لم أجد له حديثا منكرا فاحكم عليه بالضعف وأرجو أنه لا بأس به". ينظر:"تهذيب التهذيب"(4/346-347). وقال في "التقريب"(2792):"صدوق سيء الحفظ".

وبالجملة فالحديث المرفوع حسن لغيره إن شاء الله ومثله يمشى ويرخص فيه؛ لأنه وارد في الفضائل.

ثالثاً: من فوائده ومسائله:

قال الإمام أحمد: "من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة أيام، ابن سيرين يقول ذلك" [" المغني " (4/441)].
فتبين بهذا أنه لا يصح وصف صيام الأيام الثلاثة بأنه لا أصل له.

وأما من فاته صيام اليوم التاسع، فإن صام العاشر وحده، فلا حرج في ذلك، ولا يكون ذلك مكروهاً، وإن ضم إليه صيام الحادي عشر فهو أفضل.
قال المرداوي في "الإنصاف" (3/346):
"لا يكره إفراد العاشر بالصيام على الصحيح من المذهب، ووافق الشيخ تقي الدين [ابن تيمية] أنه لا يكره".

وقال ابن رجب في "اللطائف"(ص51):"جاء في رواية: "أو بعده" فإما أن تكون "أو" للتخير أو يكون شكا من الراوي: هل قال قبله أو بعده وروي هذا الحديث بلفظ آخر وهو: "لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله ويوم بعده" يعني عاشوراء وفي رواية أخرى: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ولآمرن بصيام يوم قبله ويوم بعده" يعني عاشوراء أخرجهما الحافظ أبو موسى المديني.
وقد صح هذا عن ابن عباس من قوله من رواية ابن جريج قال: أخبرنا عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء: خالفوا اليهود صوموا التاسع والعاشر قال الإمام أحمد أنا أذهب إليه..وممن رأى صيام التاسع والعاشر: الشافعي رضي الله عنه وأحمد واسحاق، وكره أبو حنيفة إفراد العاشر بالصوم".
قال الشيخ ابن باز -رحمه الله- كما في "فتاوى نور على الدرب"(16/399):
"صيام يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من محرم سنة، ويستحب أن يصوم قبله يومًا، أو بعده يومًا، أو يصوم الثلاثة جميعًا: التاسع والعاشر والحادي عشر".
والله أعلم وهو الموفق والمعين.

السبت، 10 سبتمبر 2016

السبت، 16 يوليو 2016

& بطلان دعوى صاحب السند المتصل في صفة الوضوء!
كتبه/ د. خالد بن قاسم الردادي

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...وبعد:
فقد سئلت عن مقطع فيديو انتشر كثيرا تناقله في بعض وسائل الاتصال لبعض الناس زعم ناشره أن من صُوِّر له المقطع لديه سند متصل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يبين فيه كيفية صفة وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم-!!
وقد اطلعت على المقطع المذكور فألفيت عجبا وجهلا بالغاً  وأمورا مخالفة لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أوجزها فيما يأتي:
1- قد ذكر علماء الحديث في كتب الاصطلاح عند حديثهم عن بعض أنواع علوم الحديث وهو الحديث المسلسل أنَّ من الأحاديث المسلسلة بالأفعال الحديث المسلسل بالوضوء  وفيه: "قم فصب علي حتى أريك وضوء فلان". وهو حديث أخرجه الحاكم في"معرفة علوم الحديث"(ص30):
حَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الزَّاهِدُ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُؤَمَّلِ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَاشِدٍ الْأَدَمِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْوَاسِطِيُّ خَادِمُ أَبِي مَنْصُورٍ الشَّنَابُزِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو مَنْصُورٍ: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ مَنْصُورٍ، فَإِنَّ مَنْصُورًا قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ عَلْقَمَةَ، فَإِنَّ عَلْقَمَةَ قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي: « قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ جَبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ » ، فَقُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ: كَيْفَ تَوَضَّأَ؟  قَالَ: ثَلَاثًا ثَلَاثًا . 
وإسناده حسن، وهو مختصر ليس فيه تفاصيل صفة الوضوء -كما في المقطع المذكور آنفاً-، وإنما اقتصر الراوي على ذكر العدد(ثلاثا ثلاثا)، والتسلسل فيه  بقول كل راو :"قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ..".
[ وينظر:"شرح التبصرة والتذكرة"(2/95)، و"فتح المغيث"(4/39)].
قال ابن الصلاح في"معرفة علوم الحديث"(ص379):"وقَلَّما تَسْلَمُ المسَلْسَلاتُ مِنْ ضَعْفٍ، أعْنِي: في وَصْفِ التَّسَلْسُلِ لا في أصلِ المتنِ".
ولا ريب أن  صاحب الوضوء المذكور في المقطع لايقصد هذا الحديث الذي ذكرته آنفا البتة، وإنما جاء بصفة من عنده -لم يبينها- لا أصل لها في كتب السنة!!
وليس في المقطع المذكور ذكر للرواية والاسناد  المتصل -المزعزم- ؛ وإنما صفة لوضوء لا دليل على أكثر تفاصيله! فلم التدليس !!!
كان يلزم هذا المتوضئ أن يتحفنا بسنده ومصدره حتى ننظر في صدق دعواه في اتصال السند من شيخه إلى منتهى السند بالصفة التي ساقها - كما زعم رافع المقطع -!! 
ويستحيل أن يختفي هذا الأمر على أهل الحديث -سابقهم ولاحقهم- ثم يظهره شخص مغمور لا يُعرف ليتحفنا بهذا!!
 فالسند صاحبه مجهول عن سلسلة مجاهيل على فرض وجودهم!!

2- صفة الوضوء التي ذكرها -وأطال فيها- من فرك للأعضاء وتخليل الماء بينها وضرب بقبضة اليد في باطن الأخرى وطريقة صب الماء... لا أصل له في كتب السنة، ولا أدري من أين جاء بهذا ؟! وفيها تكلف وتنطع وتعسف بالغ !!

3- قوله (غسل اليد وحدها أفضل من غسل الثنتين في وقت واحد ..وكونهما بست أفضل..) لادليل عليه!!

4- قوله(السواك مندوب وإن بأصبع)لا دليل عليه !

5- قوله (نسيت الاستنشاق ..نسيته وسأرجع إليه بعد هذا لأن الفرض لا يرجع منه إلى السنة) لادليل 

عليه، فكان عليه الرجوع من غير حرج !

6- يكثر من التهليل أثناء وضوئه وكأنه من سنن الوضوء! وهذا لا دليل عليه أيضاً.

7- مسحه لرقبته وأخذه ماءا جديدا لمسح بعض الرأس وللأذنين ، كل هذا  لم يثبت في السنة.

8- كشفه عن فخذه أثناء وضوئه يدل على جهله !!

9- رفع اليدين عند الذكر في نهاية الوضوء والذكر الذي قاله لا يثبت منه شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلا حديث :"اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي" فقد أخرجه أحمد رقم(19574)، والنسائي في"اليوم والليلة"رقم(80) وهو حديث حسن، وصححه النووي في"الأذكار"(ص29).

9- صفة مسح الرأس للمرأة التي ذكرها لا تصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يثبت بها نص.
 
وختاما فلاريب أن انتشار وتداول مثل هذه المقاطع والتي فيها كثير من المخالفات -كما سبق- يمثل خطرا على السنة وأهلها من قبل الصوفية ومن شاكلهم فهم يزعمون أمورا قد اختصوا بها دون غيرهم من الناس ينشرون من خلالها بدعهم وأباطيلهم مع افتتان كثير من العوام بمثل هذه الأمور والنظر لهم بالتعظيم والإجلال والسبق في لزوم السنة وهم أبعد الناس عنها ، وكل هذا لصرف الناس عن تعلم السنة ولزومها وإشغالهم بالبدع وفعل المخالفات فإلى الله الشكوى.
ومما يجدر التنبيه عليه أن يجب محاربة مثل هذه المقاطع وكشف مافيها من مخالفات للسنة حتى يحذر منها الناس ويموت ذكرها، نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، ويوفقنا للزوم كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.



الأحد، 10 يوليو 2016

تحذير العباد من اتخاذ المساجد أماكن للرقص والإنشاد!

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله تعالى قد بين وظيفة المسجد والهدف من بنائه، وما يشرع فيه من الأعمال، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور:36و37].
فالمساجد إنما بنيت ليعظم فيها الله بطاعته –جل وعلا- من أداء الصلوات وذكر الله بأنواع الذكر من التسبيح والتهليل والتحميد له سبحانه، آناء الليل وأطراف النهار؛ لذا كان المسجد معظماً في الإسلام، فكان لزاماً أن يحافظ عليه من الامتهان بالأوساخ، أو رفع الأصوات فيه بإنشاد الضالة أو الصخب أو اللهو الذي تنتهك به حرمة ذلك البيت المتميز عن غيره من البيوت.
بل حتى الشعر المجرد مع كونه مباحاً يكره الاكثار منه في بيوت الله؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّه:«نَهَى عَنْ تَنَاشُدِ الأَشْعَارِ فِي المَسْجِدِ، وَعَنِ البَيْعِ وَالِاشْتِرَاءِ فِيهِ، وَأَنْ يَتَحَلَّقَ النَّاسُ فِيهِ يَوْمَ الجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ» [أخرجه أبو داود رقم(1079)، والترمذي رقم(322)، والنسائي (2/ 47)، وابن ماجه رقم(749)و(1133). وحسّنه الترمذي، والنووي في"الخلاصة"(2/287)، وابن حجر في"الفتح"(1/549)، والألباني في"إرواء الغليل"(7/363)].
ومن المنكرات العظيمة مايفعله بعض الجهال من امتهان لقدسية ومكانة المسجاد وذلك باتخاذها مكاناً للهو واللغو والرقص والاحتفال خاصة في أيام الأعياد، ولا ريب أن هذا جرم عظيم ينافي مكانتها والقصد من بنائها وعمارها، فيجب معرفة قدرها وشرفها، وتعاهدها، وتطهريها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق بها.
فعن  عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي الْمَسْجِدِ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "اجْتَنِبُوا اللَّغْوَ فِي الْمَسَاجِدِ"[أخرجه أحمد في"فضائل الصحابة" رقم(572)].
 وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نهى الله سبحانه عن اللغو في المساجد". وقال قتادة -رحمه الله-: "المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها" [ينظر:"تفسير ابن كثير"(10/242)].
ومما يصان منه المسجد إنشاد الشعر فيه إذا أدى إلى اللغط وارتفاع الأصوات، فإن ذلك منهي عنه كما جاء عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لِيَلِنِي مِنْكُمْ، أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَلَاثًا، وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ» [أخرجه مسلم رقم(432)].
ومن هيشات الأسواق: ارتفاع الأصوات واللغط، والإنشاد جماعة في المسجد داخل في هذا والله أعلم.[ينظر:"شرح مسلم" للنووي(4/156)].
قال القرطبي -رحمه الله-:"أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك، فمن مانع مطلقا، ومن مجيز مطلقا، والأولى التفصيل، وهو أن ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضي الثناء على الله -عز وجل- أو على رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو الذب عنهما كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها، فهو حسن في المساجد وغيرها، كقول القائل:
طوفي يا نفس كي أقصد فردا صمدا ... وذريني لست أبغي غير ربي أحدا
فهو أنسي وجليسي ودعي الناس ... فما إن تجدي من دونه ملتحدا
وما لم يكن كذلك لم يجز، لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك، لقوله تعالى:{في بيوت أذن الله أن ترفع}"["تفسير القرطبي"(12/271)].
وقال أبو الطيب الطبري – رحمه الله -:"ليس في المسلمين من جعله (تلحين الشعر) طاعة وقربى، ولا رأى إعلانه في المساجد، ولا حيث كان من البقاع الكريمة والجوامع الشريفة؛ فكان مذهب هذه الطائفة (الصوفية) مخالفاً لما أجمع عليه العلماء"["نزهة الأسماع"لابن رجب (ص: 84)].
وقال العز بن عبد السلام -رحمه الله-:"وأما الرقص و التصفيق فَخِفَّةٌ ورعونة، مُشْبِهَةٌ لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذّاب، كيف يتأتى الرقص المتَّزن بأوزان الغناء، ممن طاش لُبُّه وذهب قلبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) متفق عليه. ولم يكن واحد من هؤلاء الذين يقلّدونهم يفعل شيئاً من ذلك.["قواعد الأحكام" (2/186)].
وقال الصنعاني -رحمه الله-: "وأما الرقص والتصفيق فشأن أهل الفسق والخلاعة لا شأن من يحب الله ويخشاه"["سبل السلام"(3/130_131)].
وقال الإمام شرف الدين إسماعيل بن المقري اليمني الشافعي في قصيدته في ذمّ الرقص:

قالوا: رَقصْنا كما الأُحْبوشُ قد رقصوا** بمسجد المصطفى، قُلنا: بلا كَذِبِ

الحُبْشُ ما رقصوا، لـكنهم لَعِبـوا** مِنْ آلـة الحَرْبِ بالآلات واليَلَبِ

وذلـك اللـعبُ منـدوبٌ تَعلُّمُه ** في الشرع للحرب تدريباً لكلّ غبي

[ينظر: رسالة "الرّهص والوقص لمستحلّ الرقص"(ص42)].

وختاماً: 
يجب على كل مسلم يحب الله، ويرجو عفوه ومغفرته، أن يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه، وأن يعظم حرماته وشعائره، وأن يحافظ على المساجد من العبث فيها، وأذية المسلمين الخاشعين الراكعين الساجدين فيها، وأن يقطع كل وسائل الاتصالات بينه وبين الناس، وأن يتصل مع الله - جل وعلا - وذلك بمحافظته على الصلوات الخمس في المساجد مع الجماعة، مع العناية الشديدة بخشوعها، ولا يتأتى ذلك إلا بترك كل ما يشغل عن الله.

فالله الله في احترام المساجد وتعظيمها، وعدم أذية المسلمين العمار لها، وتربية أولادنا على ذلك وحب الصلاة، وحب المساجد وحب نظافتها وأن نبين لهم حرمة العبث والتخريب في المساجد والأذية فيها.

نسأل الله تعالى أن يعيننا على طاعته وذكره وحسن عبادته، والله الموفق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.

والحمد لله رب العالمين.

الاثنين، 4 يوليو 2016

مسائل وفوائد في التهنئة بالعيد

كتبه/د. خالد بن قاسم الردادي

اولاً-  التهنئة في اللغة خلاف التعزية، يقال: هنأه بالأمر والولاية تهنئة وتهنيئا إذا قال له: ليهنئك وليهنيك، أو هنيئا، ويقال: هنأه تهنئة وتهنيا. والهنيء والمهنأ: ما أتاك بلا مشقة ولا تنغيص ولا كدر.
والهنيء من الطعام: السائغ، واستهنأت الطعام استمرأته [ينظر: "معجم مقاييس اللغة"(6/68)، ,"تاج العروس"(1/512)] .
وفي الاصطلاح: المباركة للشخص بخير أصابه، خلاف التعزية. ولا تخرج التهنئة - في الجملة - عن المعنى اللغوي، لكنها في مواطنها قد تكون لها معان أخص كالتبريك، والتبشير، والترفئة، وغير ذلك [ينظر: "معجم لغة الفقهاء"(ص149)، "الموسوعة الفقهية"(14/95)].
والتهاني -من حيث الأصل- من باب العادات ، والتي الأصل فيها الإباحة ، حتى يأتي دليل يخصها ، فينقل حكمها من الإباحة إلى حكم آخر.
قال العلامة السعدي -رحمه الله- مبيناً هذا الأصل في جواب له عن حكم التهاني في المناسبات: " هذه المسائل وما أشبهها مبنية على أصل عظيم نافع ، وهو أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز ، فلا يحرم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع ، أو تضمن مفسدة شرعية .."[ "المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي"(1/143)].

ثانياً- قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في"مجموع الفتاوى"(24/253):"  وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ فَلَيْسَ سُنَّةً مَأْمُورًا بِهَا، وَلَا هُوَ أَيْضًا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، فَمَنْ فَعَلَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ ".
وسئل الشيخ العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: ما حكم المصافحة، والمعانقة والتهنئة بعد صلاة العيد؟
فأجاب بقوله:" هذه الأشياء لا بأس بها؛ لأن الناس لا يتخذونها على سبيل التعبد والتقرب إلى الله عز وجل، وإنما يتخذونها على سبيل العادة، والإكرام والاحترام، ومادامت عادة لم يرد الشرع بالنهي عنها فإن الأصل فيها الإباحة "["مجموع فتاواه"(16/209)].

ثالثاً-" التَّهْنِئَةُ يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إذَا لَقِيَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَأَحَالَهُ اللَّهُ عَلَيْك، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ، الْأَئِمَّةُ، كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ "[ "مجموع الفتاوى"لابن تيمية (24/253)].

رابعاً- الآثار الواردة عن الصحابة والسلف في جواز التهنئة بالعيد:

  • عَن مُحَمَّد بن زِيَاد الْأَلْهَانِي قَالَ: كُنَّا نأتي أَبَا أُمَامَة وواثلة بن الْأَسْقَع فِي الْفطر والأضحى ونقول لَهما: قبل الله منا ومنكم. فَيَقُولَانِ: ومنكم ومنكم.[أخرجه الطحاوي كما في"مختصر اختلاف العلماء"(4/385) بسند حسن].
  • -وفي كتاب "تحفة عيد الأضحى" لأبي القاسم زاهر بن طاهر الشحامي المستملي (ما أورده) بسند حسن عن جبير بن نفير -وهو من كبار التابعين، وذكر في الصحابة لأن له رؤية، وهو من رجال الصحيح - قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنكم.[ "جزء في التهنئة في الأعياد" لابن حجر(ص33)].
  • وأخرج الخلال في كتاب "العلل" عن حرب الكرماني عن إسحاق بن زاهر بسند حسن إلى عمرو السكسكي قال: رأيت عبد الله بن بسر المازني وخالد بن معدان وراشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير بن نفير يقول بعضهم لبعض في العيدين: تقبل الله منا ومنكم.
  • نقل أبو الوفاء بن عقيل في كتاب "الفصول" عن الإمام أحمد بن حنبل قال: إسناد حديث أبي أمامة جيد.
  • ونقل الشيخ موفق الدين ابن قدامة في "المغني" عن حرب قال: سئل أحمد عن قول الناس تقبل الله منا ومنك فقال: لا بأس به، يرويه أهل الشام عن أبي أمامة، قيل له: وعن واثلة، قال: نعم.[ "جزء في التهنئة في الأعياد" لابن حجر(ص35)].
  • وروى حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب قَالَ: كُنَّا نأتي مُحَمَّد بن سِيرِين وَالْحسن فِي الْفطر والأضحى فَنَقُول لَهما: قَبِلَ اللهُ مِنَّا ومنكم. فَيَقُولَانِ: ومنكم.[ "مختصر اختلاف العلماء"(4/385)].
  • وعَنْ أدْهَم مَوْلى عُمَر بن عبد العزيز، قَالَ: "كُنَّا نقُولُ لِعُمَرَ بنِ عبد العَزِيزِ في الْعِيدَيْنِ: تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنَّك، يا أمير المؤمنين. فلا يَنْكُر ذَلِكَ عَلينَا"[ أخرجه زاهر بن طاهر الشحّامي في"جزء تحفة عيد الفطر"رقم(51)، والبيهقي(3/319) بإسناد لابأس به].
  • وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ: سَأَلْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ مُنْذُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً(يعني عن التهنئة )، فقَالَ: لَمْ يَزُلْ يُعْرَفُ هَذَا بِالْمَدِينَةِ.[ "المغني"(2/296)، و"جزء في التهنئة في الأعياد" لابن حجر(ص40-41)].
  • وقال أبو بكر الآجري:"هو فعل الصحابة والعلماء"["جزء في التهنئة في الأعياد" لابن حجر(ص37)].
خامساً- المتعارف عليه أن التهنئة بالشئ تكون عند حصوله وحدوثه، فهل يهنئ بالعيد بعد رؤية الهلال أم بعد الفراغ من صلاة العيد؟
لم يرد عن السلف فعلهم للتهنئة قبل الصلاة، ولايوجد مايمنع وهو من باب العادات والأصل فيها الإباحة -كما سبق-، فالذي أراه أنه لاتثريب على من بادر بالتهنئة ليلة العيد عن طريق وسائل الاتصال فالباب في هذا واسع إن شاء الله تعالى.
وأما القول بأن من قدم التهنئة قبل العيد فقد خالف السنة، فلا يصح ولا وجه له لأن التهنئة ليست سنة مأمور بها -كما سبق نقله عن ابن تيمية- ولم يرد فيها شئ من السنة أصلاً.

سادساً- لا إشكال في التهنئة بالعيد والفرح والاجتماع بعد انتهائه ولو لأيام تأتي؛ لأن المقصود منه التودد وإظهار الفرح والسرور.
قال الإمام عبد الرزاق الصنعاني(ت211هـ): وسألت معمراً(ت153هـ) عن صيام الست التي بعد يوم الفطر، وقالوا له: تصام بعد الفطر بيوم، فقال: "معاذ الله إنما هي أيام عيد وأكل وشرب، ولكن تصام ثلاثة أيام قبل أيام الغر، أو ثلاثة أيام الغر أو بعدها، وأيام الغر ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر". وسألنا عبد الرزاق: "عمن يصوم يوم الثاني؟ فكره ذلك، وأباه إباء شديداً". ["المصنف"(4/316)].
قال الشرواني الشافعي -رحمه الله- : "..لا تطلب – أي : التهنئة - في أيام التشريق وما بعد يوم عيد الفطر، لكن جرت عادة الناس بالتهنئة في هذه الأيام ولا مانع منه ; لأن المقصود منه التودد وإظهار السرور ، ويؤخذ من قوله يوم العيد أيضاً : أن وقت التهنئة يدخل بالفجر لا بليلة العيد خلافا ، لما في بعض الهوامش ا هـ ، وقد يقال : لا مانع منه أيضاً إذا جرت العادة بذلك ؛ لما ذكره من أن المقصود منه التودد وإظهار السرور ، ويؤيده ندب التكبير في ليلة العيد " [انتهى من: "حواشي الشرواني على تحفة المحتاج"(2/57)] .

 والله الموفق والمعين. 

الجمعة، 1 يوليو 2016

تسميةآخر جمعة من رمضان بـ(الجمعة اليتيمة)!

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...وبعد:

أولاً:
 اطلاق لفظة(الجمعة اليتيمة) أو (جمعة الوداع) على آخر جمعة في رمضان مصطلح لا يُعرف في الشرع ، فهو مصطلح محدَث ، وكل ما حفَّه من صلوات مخصوصة أو احتفال مخصوص أو تذكير برسائل على شبكات التواصل خاصة به: محدث مثله .
والصحيح الثابت في الكتاب والسنة وآثار السلف وأقوال أهل العلم هو التأكيد على الفرائض التي فرض الله على عباده من صلاة وصيام وغير ذلك وجوبا ، والتأكيد على النوافل التي سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم استحباباً .
وما عدا ذلك مما أحدث الناس في دين الله فمحدث مردود .

ثانيا :
تنوعت صور المحدثات والبدع المتعلقة بهذه التسمية ، أو الفضيلة المخترعة ، وتفاوتت بتفاوت البلدان ؛ فمن ذلك :

1 - احتفال بعض الناس بما يسمونه بالجمعة اليتيمة وذلك بإرسال رسائل تذكيرية خاصة على شبكات التواصل أو عبر خطب الجمع؛ وكل هذا لا أصل له في الشرع ، وليس لآخر جمعة من رمضان خصوصية عن باقي أيامه ، ولا يتعلق بها شيء من أمر شفاء الأمراض ، كما يعتقدون في الجمعة اليتيمة، ولا شيء من خصوصيات العبادة كذلك . [ينظر:"البدع الحولية"(ص337)].

2- الصلاة التي يصليها طوائف من العوام والمبتدعة في آخر جمعة من رمضان ، يزعمون أنها تكفِّر إثم من فاتته صلوات مفروضة : فهذه صلاة مبتدعة لا أصل لها .
فقد سئل الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- :
هناك جماعة من الناس عندهم عادة في رمضان وهي صلاتهم الفروض الخمسة بعد صلاة آخر جمعة ويقولون : إنهاء قضاء عن أي فرض من هذه الفروض لم يصله الإنسان أو نسيه في رمضان ، فما حكم هذه الصلاة ؟ .
فأجاب :
"الحكم في هذه الصلاة : أنها من البدع ، وليس لها أصل في الشريعة الإسلامية ، وهي لا تزيد الإنسان من ربه إلا بُعداً ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار) فالبدع وإن استحسنها مبتدعوها ورأوها حسنة في نفوسهم : فإنها سيئة عند الله عز وجل ؛ لأن نبيه صلى الله عليه وسلم يقول : (كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار) وهذه الصلوات الخمس التي يقضيها الإنسان في آخر جمعة من رمضان : لا أصل لها في الشرع ، ثم إننا نقول : هل لم يخلَّ هذا الإنسان إلا في خمس صلوات فقط ؟! ربما أنه أخل في عدة أيام لا في عدة صلوات .
والمهم : أن الإنسان ما علم أنه مخلٌّ فيه : فعليه قضاؤه متى علم ذلك ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) – متفق عليه - وأما أن الإنسان يفعل هذه الصلوات الخمس احتياطاً - كما يزعمون - : فإن هذا منكر ولا يجوز"["مجموع فتاوى الشيخ العثيمين"( 12 / 227 ، 228)].

3- يعتبر كثير من مسلمي الهند ( جمعة الوداع ) مناسبة دينية مهمة ، للاجتماع والالتقاء ، فيشدون رحالهم إلى المسجد الكبير ، ويجتمع أعداد غفيرة من المسلمين في هذه الجمعة .
وقد سبق أنه ليس لهذه الجمعة فضيلة مخصوصة ، ومن ظن ذلك واعتقده فقد أخطأ ، والواجب التزام حضور الجمع والجماعات كلما نودي بالصلاة ، وألا يتخلف عنها إلا أصحاب الأعذار .

4- ومن الامور المحدثة المتعلقة بوداع رمضان , مايفعله بعض الخطباء في آخر جمعة من رمضان ,من ندب فراقه كل عام , والحزن على مضيه ,وقوله : لا أحوش الله منك ياشهر كذا وكذا . ويكرر هذه الوحشيات مسجعات مرات عديدة ,
ومن ذلك قوله :لا أحوش الله منك ياشهر المصابيح ,لا أحوش الله منك ياشهر المفاتيح . فتأمل هدانا الله وإياك لما آلت إليه الخطب , لا سيما خطبة آخر هذا الشهر الجليل , الناس فيه بحاجة ماسة الى آداب يتعلمونها لما يستقبلهم من صدقه الفطر ,ومواساة الفقراء , والاستمرار على ما ينتجه الصوم من الأمور الفاضلة, والآثار الحميدة , وتجنب البدع وغير ذلك مما يقتضيه المقام. [ينظر:"إصلاح المساجد" (ص 145 , 146) و"السنن والمبتدعات"(ص165)].

5- من هذه الصور أيضا : ما يسميه البعض بـــ " صلاة الفائدة " ، وهي من الصلوات المبتدعة في هذه المناسبة .
سئل العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- : عن صلاة الفائدة وهي مائة ركعة ، وقيل أربع ركعات تصلى في آخر جمعة من رمضان ، فهل هذا القول صحيح ؟ وما حكم هذه الصلاة ؟
فأجاب: " هذا القول ليس بصحيح ، وليس هناك صلاة تسمى صلاة الفائدة ، وجميع الصلوات فوائد ، وصلاة الفريضة أكبر الفوائد ؛ لأن جنس العبادة إذا كان فريضة فهو أفضل من نافلتها .
وأما صلاة خاصة تسمى صلاة الفائدة : فهي بدعة لا أصل لها .
وليحذر المرء من أذكار وصلوات شاعت بين الناس وليس لها أصل من السنة ، وليعلم أن الأصل في العبادات الحظر والمنع ، فلا يجوز لأحد أن يتعبد لله بشيء لم يشرعه الله في كتابه ، أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومتى شك الإنسان في شيء أمن أعمال العبادة أو لا ؟ فالأصل أنه ليس بعبادة حتى يقوم دليل على أنه عبادة " ["مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (14/ 331)].

والله الموفق والمعين

الأحد، 26 يونيو 2016

مسائل وأحكام في زكاة الفطر

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
فهذه بعض المسائل المهمة في زكاة الفطر، سائلا الله تعالى أن ينفع الجميع بها، وأن يتقبل منهم زكاتهم، وسائر أعمالهم.

أولاً- تسميتها:
سميت بذلك لأنَّ وُجوبها بدُخول الفطر، ويُقال أيضًا: زكاة الفطرة بكسر الفاء، والتاء في آخِرها، كأنها من الفطرة التي هي الخلقة المرادة بقوله - تعالى -: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30]، وقال ابن الرفعة: بضم الفاء، واستُغرِب، والمعنى: أنها وجَبتْ على الخلقة تزكيةً للنفس وتنميةً لعملها.
 قال النووي في "المجموع": "يُقال للمخرج: فطرة بكسر الفاء لا غير، وهي لفظة مُولَّدة لا عربية ولا مُعرَّبة، بل اصطلاحيَّة للفقهاء، فتكون حقيقة شرعيَّة على المختار كالصلاة والزكاة" ["المجموع"(6/103)].
وتعقبه العيني فقال:"وَلَو قيل: لَفْظَة إسلامية كَانَ أولى لِأَنَّهَا مَا عرفت إلاَّ فِي الْإِسْلَام، وَيُؤَيّد هَذَا مَا ذكره ابْن الْعَرَبِيّ: هُوَ اسْمهَا على لِسَان صَاحب الشَّرْع، وَيُقَال لَهَا: صَدَقَة الْفطر وَزَكَاة الْفطر وَزَكَاة رَمَضَان وَزَكَاة الصَّوْم، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، صَدَقَة الصَّوْم، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (صَدَقَة رَمَضَان) ، وَتسَمى أَيْضا صَدَقَة الرؤوس وَزَكَاة الْأَبدَان سَمَّاهَا الإِمَام مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى"["عمدة القاري"(9/107)].
أما تعريفها في الاصطلاح: فهي صدقة تجب بالفطر من رمضان، طهرة للصائم: من اللغو، والرفث["منتهى الإرادات"(1/ 496)، "حاشية الروض المربع" لابن قاسم(3/ 269)].

ثانياً- حكمها وعلى من تجب؟:

فرضت زكاة الفطر في السنة الثانية من الهجرة - أي مع رمضان -.
وهي واجبة على كل مسلم كبير وصغير، وذكر وأنثى، وحر وعبد، وقد دلّ على مشروعيتها عموم القرآن، وصريح السنة الصحيحة، وإجماع المسلمين، قال تعالى:  {قد أفلح من تزكى}[الأعلى:14] أي: فاز كل الفوز، وظفر كل الظفر من زكى نفسه بالصدقة، فنماها وطهرها.
قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [الأعلى:14، 15] قال: هي صدقة الفطر.
وهكذا قال غير واحد من السلف - رحمهم الله تعالى - في الآية هي زكاة الفطر.
وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي  عند ابن خزيمة وغيره. وقال مالك - رحمه الله - هي يعني زكاة الفطر - داخلة في عموم قوله تعالى: { وآتوا الزكاة }. وأخرج البخاريُّ(1503)، ومسلمٌ(٩٨٤، ٩٨٦)عن ابن عمر - رضِي الله عنهما - قال: "فرَض رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - زكاةَ الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على العبد والحر، والذَّكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمَر بها أنْ تُؤدَّى قبل خُروج الناس إلى الصلاة".
 وأخرج البخاريُّ(1506) ومسلمٌ(985) عن عياض بن عبدالله بن سعد بن أبي سرح، أنَّه سمع أبا سعيدٍ الخدري، يقول: "كنَّا نخرج زكاةَ الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب".
 وفي رواية في "صحيح مسلم" عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: "كنَّا نُخرِج إذ كان فينا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - زكاةَ الفطر عن كلِّ صغير وكبير، حر أو مملوك، صاعًا من طعام، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، فلم نزل نُخرِجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجًّا أو معتمرًا، فكلَّم الناس على المنبر، فكان فيما كلَّم به الناس أنْ قال: "إنِّي أرى أنَّ مدين من سمراء الشام، تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك"، قال أبو سعيد: "فأمَّا أنا فلا أزالُ أخرجه كما كنت أخرجه أبدًا ما عشت".
 وأخرج أبوداود(1609)، وابن ماجه(1827)بإسناد حسن عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "فرَض رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - زكاةَ الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرَّفث، وطُعمةً للمساكين، مَن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومَن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات".
وأجمع عليها المسلمون قديماً وحديثاً، وكان أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها.
قال ابن المنذر:"أجمع كلُّ مَن نحفظ عنه من أهل العلم، على أنَّ صدقة الفطر فرضٌ"["الإجماع"(ص 55)].
 وقال إسحاق:"هو كالإجماع من أهل العلم".
ويستحبُّ إخراجُها عن الجنين إذا نُفِخَتْ فيه الرُّوح، وهو ما صار له أربعةُ أشهر؛ فقد كان السلف يُخرِجونها عنه، كما ثبت عن عثمان وغيره.
 ويجبُ أنْ يُخرِجها عن نفسه وعمَّن تلزمه نفقته، من زوجةٍ أو قريبٍ، وكذا العبد فإنَّ صدقةَ الفطر تجبُ على سيِّده؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس في العبد صدقةٌ إلا صدقة الفطر)).
 ولا تجبُ إلا على مَنْ فضل عن قُوتِه وقُوت مَن تلزَمه نفقته وحَوائِجه الضَّروريَّة في يوم العيد وليلته ما يُؤدِّي به الفطرة.
 فزكاة الفطر لا تجبُ إلا بشرطين:
1- الإسلام، فلا تجب على الكافر.
2- وجود ما يفضل عن قوته وقوت عِياله، وحوائجه الأصليَّة في يوم العيد وليلته.

ثالثاً- حكمة تشريعها:

من الحِكَمِ في وجوب زكاة الفطر ما يأتي:
1- تطهير الصائم ممَّا عسى أنْ يكون قد وقَع فيه في صيامه من اللغو والرفث.
أخرج أبو داود وابن ماجه عن ابن عبَّاس، قال: "فرَض رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - زكاةَ الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرَّفث".
قال وكيع بن الجرَّاح: "زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة".
2- إغناء الفقراء والمساكين عن السؤال في يوم العيد، وإدخال السرور عليهم؛ ليكون العيد يوم فرح وسُرور لجميع فِئات المجتمع؛ وذلك لحديث ابن عباس - رضِي الله عنهما -: "أغنوهم عن الطَّواف في هذا اليوم"؛ أي: أغنوا الفقراء عن السؤال في يوم العيد.
ولقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث: (وطُعمةً للمساكين).
3- وفيها إظهارُ شُكرِ نعمة الله على العبْد بإتمام صيام شهر رمضان وقيامه، وفعْل ما تيسَّر من الأعمال الصالحة في هذا الشهر المبارك.

رابعاً- وقت إخراج زكاة الفطر:

إخراج زكاة الفطر على النحو الآتي:
1- وقت الجواز: فيجوز تقديم زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين؛ لحديث  ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-أنه كان يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ» أخرجه البخاري(1511)، وأخرج مالكٌ(1/285) عن نافعٍ: «أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَبْعَثُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَى الَّذِي تُجْمَعُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ».
قال الألباني في "إرواء الغليل"(3/335): «ويُؤيِّدُ ذلك ما وَقَعَ في روايةِ ابنِ خُزَيْمةَ(٢٣٩٧) مِنْ طريق عبد الوارث عن أيُّوب: قلتُ: «متى كان ابنُ عمر يُعطي؟» قال: «إذا قَعَدَ العاملُ»، قلت: «متى يقعد العاملُ؟» قال: «قبل الفطر بيومٍ أو يومين».
2- وقت الوجوب: هو غروب الشمس من آخر يوم من رمضان؛ فإنها تجب بغروب الشمس من آخر شهر رمضان، فمن تزوج، أو ملك عبداً، أو وُلِد له ولد، أو أسلم قبل غروب الشمس، فعليه الفطرة، وإن كان ذلك بعد الغروب لم تلزمه، ومن مات بعد غروب الشمس ليلة الفطر فعليه صدقة الفطر.
3- وقت استحباب وهو: إخراجها يوم الفطر قبل صلاة العيد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وكما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (فمن أداها قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات).
4- لا يجوز تأخيرها بعد صلاة العيد على القول الصحيح، فمن أخَّرها بعد الصلاة بدون عذر، فعليه التوبة، وعليه أن يخرجها على الفور، وقال الإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز -رحمه الله-: "الواجب... إخراجها قبل صلاة العيد، ولا يجوز تأخيرها إلى ما بعد صلاة العيد"["مجموع الفتاوى"(14/201)].
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين، -رحمه الله-، في تعمد إخراجها بعد صلاة العيد: "والصحيح أن إخراجها في هذا الوقت محرم، وأنها لا تجزئ "["الشرح الممتع"(6/173)].

خامساً- مقدار الواجب، ومِمَّ يخرج؟:

الواجب في زكاة الفطر صاعٌ من غالب قُوت أهل البلد من بر، أو شعير، أو تمر، أو زبيب، أو أَقط، أو أرز، أو ذرة... أو غير ذلك؛ لثبوت ذلك عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الأحاديث الصحيحة؛ كحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - المتقدِّم.
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ -رضي الله عنه- أنه قال: «كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ: «إِنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ»؛ فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ»، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ، أَبَدًا مَا عِشْتُ» أخرجه البخاري (١٥٠٨)، ومسلم (٩٨٥) واللفظ له.
أمَّا إخراجُ زكاةِ الفطر بالقيمة فقَدْ مَنَعَ مِنْ ذلك الجمهورُ [المالكيةُ والشافعيةُ والحنابلةُ].
قال الإمام أحمد-رحمه الله-: لا يعطي القيمة. قيل له: قوم يقولون: عمر بن عبدالعزيز كان يأخذ القيمة؟ قال: يدعون قول رسول الله ويقولون: قال فلان. وقد قال ابن عمر: "فرض رسول الله  زكاة الفطر ".
وقال ابن قدامة -رحمه الله-: (ولا تجزئ القيمة؛ لأنه عدول عن المنصوص)[«المُغْنيَ»(٣/ ٦٥)].
 وقال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «ولم يُجِزْ عامَّةُ الفُقَهاءِ إخراجَ القيمةِ وأجازَهُ أبو حنيفة»[«شرح مسلم» للنووي (٧/ ٦٠)، وينظر: «المجموع» للنووي (٦/ ١٤٤)].
وقال ابن باز -رحمه الله-: (ولا يجوز إخراج القيمة عند جمهور أهل العلم، وهو أصح دليلاً، بل الواجب إخراجها من الطعام، كما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- ).
 والصاع والصواع (بالكسر وبالضم) لغةً: مكيال يُكال به، وهو أربعة أمداد.
والمراد به: صاع النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  وهو أربعة أمداد. والمد: ملء كفيّ الرجل المتوسط اليدين من البرّ الجيد ونحوه من الحب، وهو كيلوان ونصف على وجه التقريب، ويختلف تقدير الصاع بالكيلو جرام بحسب الطعام المُخرج، ومن أخرَج عن الواحد كيلوين ونِصف إلى ثلاثة كيلو جرامات تقريبًا من الأرز أو غيره، فقد أخرَج المِقدار الواجب بيقين.

سادساً- في مَصْرِف زكاة الفطر:

اختلف الفُقَهاءُ في مَصْرِف زكاة الفطر على قولين:
أحَدُهما: أنَّ مَصْرِفَ زكاةِ الفطر هو مَصْرِفُ زكاةِ المال الثمانية؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ﴾ [التوبة: ٦٠]، وهذا هو مذهبُ جمهورِ العُلَماء مِنَ الحنفية والشافعية، والمشهورُ عن الحنابلة.
والثاني: أنَّ زكاةَ الفطرِ خاصَّةٌ بالفُقَراءِ والمساكينِ ولا تُصْرَفُ إلَّا إليهم، وهو مذهبُ المالكيةِ والحنابلةِ على قولٍ، واختارَهُ ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ[ ينظر:  «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٨٢)، «المغنيَ» لابن قدامة (٣/ ٧٨)، «المجموع» للنووي (٦/ ١٤٤، ١٨٦)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية"(25/73)].
قال ابن القيم -رحمه الله-:"وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- تخصيص المساكين بهذه الصدقة، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية قبضة قبضة، ولا أمر بذلك، ولا فعله أحد من أصحابه، ولا من بعدهم، بل أحد القولين عندنا: إنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين خاصة، وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية"["زاد المعاد"(2/21)].
ومن الخطأ دفعها لغير الفقراء و المساكين ، كما جرت به عادة بعض الناس من إعطاء الزكاة للأقارب أو الجيران أو على سبيل التبادل بينهم و إن كانوا لا يستحقونها ، أو دفعها لأسر معينة كل سنة دون نظر في حال تلك الأسر ؛ هل هي من أهل الزكاة أو لا ؟ .
ويجوز أن يعطي الجماعة أو أهل البيت زكاتهم لمسكين واحد وأن تقسم صدقة الواحد على أكثر من مسكين للحاجة الشديدة.
ولكن ينبغي أن تسلم لنفس المسكين أو لوكيله المفوض في استلامها من قبله.
 وزكاة الفطر الأفضل أن تخرج في البلد الذي فيه الإنسان، إلا لحاجة أو مصلحة راجحة فيجوز حينئذ إخراجها في غيره، ويجوز دفع الزكاة لجمعيات البر المصرح بها من الدولة، وعندها إذن منها وهي نائبة عن الدولة، والدولة نائبة عن الفقراء، وعلى هذا إذا وصلتهم الفطرة في وقتها أجزأت، ولو لم تصرف للفقراء إلا بعد العيد؛ لأنهم قد يرون المصلحة تأخير صرفها[ينظر: "الشرح الممتع"(6/175و208)].

 وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
من فقه العشر الأواخر من رمضان

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
كُنَّا بالأمس القريب نستقبل رمضان بالفرح والبهجة والسرور، وها نحن اليوم نكاد نودعه، فقد مضت الأيام حتى ذهب أكثره، وقد أحسن أنَاسٌ في الأيام الماضية فصاموا النهار وقاموا الليل، وقرأوا القرآن، وتصدقوا وأحسنوا، وتركوا المعاصي والسيئات، فلهم الأجر العظيم، والثواب الكبير، وعليهم المزيد في الباقي من أيام رمضان المبارك، وقد أساء آخرون فأخلُّوا بالصيام، وتركوا القيام، وسهروا الليالي الطوال على قيل وقال، وإضاعة المال، ومنعٍ وهات، وهجروا القرآن، وبخلوا بأموالهم، لكن الله تعالى ذو الفضل العظيم والإحسان العميم، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات لمن تاب وأناب، وقد جعل سبحانه العشر الأواخر من رمضان فرصة لمن أحسن في أول الشهر أن يزاد، ولمن أساء أن يستدرك ما فاته؛ ويغتنم هذه الأيام العشر في الطاعات وما يقربه من الله تعالى، والعشر الأواخر لها خصائص وفضائل وأحكام ، ونحن في هذه العجالة نبين طرفا من فقه العشر الأواخر من رمضان تذكرة للسامع وتنبيها للغافل، فنقول مستعينين بالله:
فمن فقه هذه العشر المباركة إحياء الليل فيها:
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في قيامها، والأعمال الصالحة فيها اجتهاداً عظيماً، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله، وجدَّ وشدَّ المئزر".
وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره" أخرجه مسلم.
فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، وقد روي من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ: (وأحيا الليل كله) وفي المسند من وجه آخر عنها قالت: (كان النبي  -صلى الله عليه وسلم-  يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر ـ يعني الأخير ـ شمر وشد المئزر).
ويحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه.
قال الإمام الشَّافعيُّ: "أستحبُّ أن يكونَ اجتِهادُه في نهارِها كاجتهادِه في ليلِها".
وقال الإمام النَّوويُّ: "يُستحبُّ أن يُزاد من العبادات في العشْر الأواخر من رمضان، وإحياء لياليه بالعبادات".
والحاصل أن الإحياء المذكور في الأحاديث شامل لجميع أنواع العبادات: من صلاة، وقرآنٍ، وذكرٍ، ودعاء، وصدقة، وغيرها، ومن الحرمان العظيم أن ترى كثيراً من الناس يُضيِّعون الأوقات في الأسواق، وغيرها، ويسهرون فإذا جاء وقت القيام ناموا، وهذه خسارة عظيمة، فعلى المسلم الصادق أن يجتهد في هذه العشر المباركة، فلعله لا يدركها مرة أخرى باختطاف هادم اللذات، ولعله يجتهد فتصيبه نفحة من نفحات الله تعالى فيكون سعيداً في الدنيا والآخرة.
ومن الفقه في هذه العشر :
ما جاء في الأحاديث السابقة أنَّ النبي  -صلى الله عليه وسلم-  كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي:
وجاء في حديث أبي ذر أن النبي  -صلى الله عليه وسلم-  لما قام بهم ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين ذكر أنه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين خاصة.
وهذا يدل على أنه يتأكد إيقاظهم في أكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر.
وعن علي رضي الله عنه قال: "كان النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يوقِظ أهلَه في العشْر الأواخر من رمضان"؛ صحيح سنن التِّرْمذي.
وفي رواية عند الطبراني:(أن النبي  -صلى الله عليه وسلم-  كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان وكل صغير وكبير يطيق الصلاة).
قال سفيان الثوري: "أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك".
وقد صح عن النبي  -صلى الله عليه وسلم-  (أنه كان يطرق فاطمة وعليا ليلا، فيقول لهما: ألا تقومان فتصليان، وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر)، وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه.
ومن الفقه فيها:
ما جاء في حديث أم المؤمنين عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ - أَيْ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ- شَدَّ مِئْزَرَهُ, وَأَحْيَا لَيْلَهُ, وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
 واختلفوا في تفسير:( شَدَّ مِئْزَرَهُ ):
  فمنهم من قال: "هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة، كما يقال فلان يشد وسطه ويسعى في كذا"، وهذا فيه نظر، فإنها قالت في رواية:"جَدَّ وشَدَّ الْمِئْزَرَ" أخرجه أحمد، فعطفت شَدَّ المئزر على جَدِّه.
والصحيح أن المراد به اعتزاله للنساء وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون، وجزم به عبد الرزاق عن الثوري، واستشهد بقول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم ... عن النساء ولو باتت بأطهار
وقد ورد ذلك صريحا من حديث عائشة وأنس، وفي حديث أنس (وطوى فراشه واعتزل النساء) وقد كان النبي  -صلى الله عليه وسلم-  غالبا يعتكف العشر الأواخر.
والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع، وقد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} إنه طلب ليلة القدر.
قال الإمام ابن رجب -رحمه الله-:
"والمعنى في ذلك: أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر، لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر، فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل، خصوصا في الليالي المرجو فيها ليلة القدر، فمن ههنا كان النبي  صلى الله عليه وسلم  يصيب من أهله في العشرين من رمضان ثم يعتزل نساءه، ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر".
ومن الفقه فيها:
الاغتسال فيها والتهئ لها خاصة الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر:
قال ابن جرير:" كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر".
وكان النخعي: يغتسل في العشر كل ليلة.
ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، فأمر زر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان.
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيّب ولبس حلة إزار أو رداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.
وكان أيوب السختياني: يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر، ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة، والتي تليها ليلتنا يعني البصريين.
وقال حماد بن سلمة: كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيّبان، ويطيبون المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
وقال ثابت: كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
قال الإمام ابن رجب -رحمه الله-:
"فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد، وكذلك يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات، كما قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، وقال ابن عمر: الله أحق أن يتزين له".
ومن الفقه فيها:
الاعتكاف فيها، وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، وهو ثابت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }. وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً". وفي لفظ: "كان يعرضُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه، وكان يعتكف في كل عام عشراً فاعتكف عشرين في العام الذي قُبض فيه" أخرجه البخاري.
وذكر ابن حجر -رحمه الله- أن المراد بالعشرين: العشر الأوسط والعشر الأخير، ويدل على معناه حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- في صحيح مسلم.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين قال: "من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها... فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر" أخرجه البخاري.
وفي حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف" فاعتكف الناس معه، قال: "وإني أُريتُها ليلة وترٍ..." متفق عليه.
وفي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجدُ الناس بالخير، وكان يلقاه في كل ليلةٍ في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرضُ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة".
قال ابن بطال -رحمه الله-:
"فهذا يدل على أن الاعتكاف من السنن المؤكدة ؛ لأنه مما واظب عليه النبى عليه السلام فينبغى للمؤمنين الاقتداء فى ذلك بنبيهم ، وذكر ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول : عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف ، وإن النبى عليه السلام لم يتركه منذ دخل المدينة كل عام فى العشر الأواخر حتى قبضه الله".
والمقصود بالاعتكاف انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله تعالى في مسجد جامع من مساجد الله طلباً لفضل ثواب الاعتكاف من الله تعالى، وطلباً لإدراك ليلة القدر، وله الخروج من معتكفه فيما لا بد منه: كقضاء الحاجة، والأكل والشرب إذا لم يُمكن ذلك في المسجد.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-:
"ومقصود الاعتكاف وروحُه عكوفُ القلبِ على الله تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخلوةُ به، والانقطاعُ عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذِكره وحبه، والإقبالُ عليه فى محل هموم القلب وخطراته، فيستولى عليه بدلَها، ويصير الهمُّ كُلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكُر فى تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، فيصيرُ أُنسه بالله بدَلاً عن أُنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوَحشة فى القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرحُ به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم".
ومن الفقه فيها:
تحري ليلة القدر: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "تَحرَّوا لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأواخِر من رَمَضانَ"؛ متفقٌ عَلَيْهِ، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيضًا: "تَحَرَّوا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوترِ مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضانَ"؛ أخرجه البخاري.
ليلة القدْر؛ قال - تعالى -: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ }، وسمَّاها الله تعالى ليلة القدْر؛ وذلك لعظمِ قدْرها وجلالة مكانتها عندَه، ولكثرة مغفرةِ الذنوب وستْر العيوب فيها، فهي ليلةُ المغفرة كما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال:"مَنْ قامَ ليلةَ القَدْر إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبِه"؛ متفقٌ عليه، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "أتَاكُم رمضانُ شهر مبارك، فرَض الله - عزَّ وجلَّ - عليكم صيامَه، تُفتح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغل فيه مَردَةُ الشياطين، لله فيه ليلةٌ خيرٌ مِن ألف شهر، مَن حُرِم خيرَها فقد حُرِم"  أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.
وقالت عائشةُ - رضي الله عنها - للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أرأيتَ إنْ وافقت ليلة القدْر، ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهمَّ إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفو فأعفُ عنِّي"، والعفوُّ مِن أسماء الله تعالى، وهو المتجاوز عن سيِّئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يُحبُّ العفو؛ فيحب أن يعفوَ عن عباده، ويحبُّ من عباده أن يعفوَ بعضهم عن بعض؛ فإذا عفَا بعضهم عن بعضٍ عاملَهم بعفوه، وعفوه أحبُّ إليه مِن عقوبته، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: "أعوذ برِضاك مِن سخطك، وعفوِك مِن عقوبتك" رواه مسلم.
وقال الإمام مالك في الموطأ: "بلغني أن ابن المسيب قال: من شهد ليلة القدر يعني في جماعة فقد أخذ بحظه منها".
وقال الإمام الشافعي: "من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها".
وليلة القدر تُطلب في أوتار العشر الأواخر من رمضان، فإن ضعُف العبدُ أو عجَزَ عن قيام العشر كلها، فلا يُغْلَبَنَّ على السبع الأواخر؛ لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التمِسوها في العشر الأواخر - يعني: ليلة القدر - فإن ضعُف أحدُكم أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقي" أخرجه مسلم.
فاجتهدوا - رحمكم الله - في هذه البواقي من ليالي الشهر، أحيوها بالعبادة، وأكثروا فيها من الصلاة والأذكار، والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن، كما كان نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - يفعل.
فحريٌّ بمَنِ التمسها فيه ألاَّ يخيب، وأن يظفر بمرغوبه ومطلوبه، وذلك فضل الله يؤتيه مَنْ يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ومن الفقه فيها أيضاً:
الحرص على الإكثار من الدعاء وطلب رحمته وعفوه ومغفرته، فلا ملجأ وملا منجى منه إلا إليه، فمن لم يتب في رمضان فمتى يتوب؟ ومن لم يرجع إلى ربه ويئوب فمتى يرجع؟ ومن كثرت ذنوبه فمن يغفرها له سوى الله، ومن أراد النجاة من النار، والفوز بالجنان متى يطلب ذلك من الله سوى في هذه الأيام، فالبدار البدار قبل انقضاء الآجال، وتصرم الليالي والأيام، فنتحسر على التفريط في جنب الله، قال تعالى:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ }.

فينبغي أن نعقد العزم في هذه الأيام والليالي المباركات لاستدراك ما فات، ولنستعد لها بأفضل القربات، ولنملئها بأنواع الطاعات، لنفوز بجنة عرضها الأرض والسماوات، وليكُن همنا في هذه العشر الأخيرة من هذا الشهر المبارَك أن نُرِيَ الله منا خيرًا، فالمحرومُ مَن حُرِم خيرها وبركتها، جعَلَنا الله ممَّن ينالون ثوابَها وأجرها.

اللهم وفِّقنا لاغتنام الخيرات، وضاعِف لنا الدرجات.

 والله الموفق والمعين.

السبت، 25 يونيو 2016

مسائل وأحكام في ليلة القدر

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...وبعد:

أولًا- سبب تسميتها:
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:1، 2]، وقال عز وجل: {ِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان:3]، وهذه الليلة، هي في شهر رمضان المبارك ليست في غيره، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: من الآية185].
ومعنى (القدر) التعظيم، أي أنها ليلة ذات قدر، لهذه الخصائص التي اختصت بها، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر. وقيل: القدر التضييق، ومعنى التضييق فيها: إخفاؤها عن العلم بتعيينها، وقال الخليل بن أحمد: إنما سميت ليلة القدر، لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها تلك الليلة، من (القدر) وهو التضييق، قال تعالى: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه} [الفجر :16]، أي ضيق عليه رزقه.
وقيل: القدر بمعنى القدَر - بفتح الدال - وذلك أنه يُقدّر فيها أحكام السنة كما قال تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} . ولأن المقادير تقدر وتكتب فيها.
فسماها الله تعالى ليلة القدر وذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها فهي ليلة المغفرة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) [أخرجه البخاري (1910) ، ومسلم (760)].
قال النووي:" قال العلماء: وسميت ليلة القدر لما يكتب فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السنة كقوله تعالى:(فيها يفرق كل أمر حكيم)، وقوله تعالى:(تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) ومعناه يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وتقديره له، وقيل: سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها، وأجمع من يعتد به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر للأحاديث الصحيحة المشهورة"["شرح صحيح مسلم"(8/57)].

ثانياً- خص الله تعالى هذه الليلة بخصائص:
1- منها أنه نزل فيها القرآن، كما تقدّم، قال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ["تفسير ابن كثير" 4/529].
2- وصْفها بأنها خير من ألف شهر في قوله: (ليلة القدر خير من ألف شهر) [القدر:3].
وألف شهر تساوي ثلاثًا و ثمانين سنة وأربعة أشهر؛ أي أن هذه الليلة الواحدة أفضل من عمر طويل يعيشه إنسان عمره ما يقارب مائة سنة، إذا أضفنا إليه سنوات ما قبل البلوغ والتكليف.
3- ووصفها بأنها مباركة في قوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) [الدخان : 3].
4- أنها تنزل فيها الملائكة، والروح، " أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَق الذِّكْر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له " [ينظر: "تفسير ابن كثير" 4/531]، والروح هو جبريل عليه السلام وقد خصَّه بالذكر لشرفه.
5- ووصفها بأنها سلام، أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى، وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله عز وجل.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إن الشمس تطلع كل يوم بين قرني الشيطان إلا صبيحة ليلة القدر".
 وفى رواية عند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ".
 وفى رواية ابن حبان عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها".
 ولذلك قال رب العالمين فيها: ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر ﴾ [القدر: 5].
 فهي ليله كلها خير وسلام، سالمة من الشيطان وأذاه.
 قال الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما-:"في تلك الليلة تُصفَّد مردة الجن، وتُغلُّ عفريت الجن".
 وقال مجاهد: "هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوء ولا يحدث فيها أذى".
 وقال أيضًا: "لا يُرسَل فيها شيطان ولا يحدث فيها داء".
 ويروى عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال:
"لا يستطيع الشيطان أن يصيب فيها أحدًا، أو داء، أو ضرب فساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر". [ ينظر: "تفسير ابن كثير" (4/531)].
6- (فيها يفرق كل أمر حكيم) الدخان /4، أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير انظر تفسير ابن كثير 4/137،138 وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له، ولكن يُظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو وظيفتهم " شرح صحيح مسلم للنووي 8/57.
7- أن الله تعالى يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنبه، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه. وقوله: (إيماناً واحتساباً) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه وطلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه. ["فتح الباري" 4/251].
وقد أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة، وذكر فيها شرف هذه الليلة وعظَّم قدرها، وهي قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. سلام هي حتى مطلع الفجر) سورة القدر.
فقوله تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر) تنويهاً بشأنها، وإظهاراً لعظمتها. (ليلة القدر خير من ألف شهر) أي: أي إحْياؤها بالعبادة فيها خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة، وهذا فضل عظيم لا يقدره قدره إلا رب العالمين تبارك وتعالى، وفي هذا ترغيب للمسلم وحث له على قيامها وابتغاء وجه الله بذلك، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس هذه الليلة ويتحراها مسابقة منه إلى الخير، وهو القدوة للأمة، فقد تحرّى ليلة القدر.

ثالثاً- وقت ليلة القدر:
ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع، فيستحب تحريها والتماسها في العشر الأواخر منه خاصة.
أخرج مسلم (1167) من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ ( والقبة : الخيمة وكلّ بنيان مدوّر ) عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ قَالَ فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ قَالَ وَإِنِّي أُرْيْتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا الطِّينُ وَالْمَاءُ وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ .
وفي رواية قال أبو سعيد : ( مطرنا ليلة إحدى وعشرين ، فوكف المسجد في مُصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظرت إليه ، وقد انصرف من صلاة الصبح ، ووجهه مُبتل طيناً وماء ) متفق عليه .
 وروى مسلم من حديث عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه نحو حديث أبي سعيد لكنه قال : ( فمطرنا ليلة ثلاثة وعشرين ).
  وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألتمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) [أخرجه البخاري 4/260].
 وكما في حديث عائشة وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) حديث عائشة عند البخاري 4/259 ، وحديث ابن عمر عند مسلم 2/823 ، وهذا لفظ حديث عائشة .
وفي أوتار العشر آكد ، لحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر ) رواه البخاري 4/259 .
وفي الأوتار منها بالذات ، أي ليالي : إحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين ، وخمس وعشرين ، وسبع وعشرين ، وتسع وعشرين .
فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر ، في الوتر ) [أخرجه البخاري (1912)، وانظر: (1913)، ورواه مسلم (1167)، وانظر: (1165)].
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) [أخرجه البخاري ( 1917 - 1918 )] . فهي في الأوتار أحرى وأرجى إذن .
وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى ( أي تخاصم وتنازع ) رجلان من المسلمين ، فقال : ( خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ) [البخاري ( 1919 )] . أي في الأوتار .
وفي هذا الحديث دليل على شؤم الخصام والتنازع ، وبخاصة في الدِّين وأنه سبب في رفع الخير وخفائه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( لكن الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة إحدى وعشرين ، وليلة ثلاث وعشرين ، وليلة سبع وعشرين ، وليلة تسع وعشرين ، ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لتاسعة تبقى ، لسابعة تبقى ، لخامسة تبقى ، لثالثة تبقى ) فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الأشفاع وتكون الاثنان والعشرون تاسعة تبقى ، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى ، وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح ، وهكذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر ، وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه ) ["مجموع الفتاوى" 25/284،285 ].
وليلة القدر في السبع الأواخر أرجى ، ولذلك جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام ، في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ) [أخرجه البخاري ( 1911 ) ومسلم ( 1165 )] .
ولمسلم : ( التمسوها في العشر الأواخر ، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يُغلبن على السبع البواقي .
وهي في ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون ، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر عند أحمد ومن حديث معاوية عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ) [مسند أحمد وسنن أبي داود ( 1386 )] .
وكونها ليلة سبع وعشرين هو مذهب أكثر الصحابة وجمهور العلماء ، حتى أبيّ بن كعب رضي الله عنه كان يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين ، قال زر ابن حبيش : فقلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ قال : بالعلامة ، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها . [أخرجه مسلم 2/268].
وروي في تعيينها بهذه الليلة أحاديث مرفوعة كثيرة.
وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( أنها ليلة سبع وعشرين ).
والصحيح أن كونها ليلة سبع وعشرين أمر غالب -والله أعلم- وليس دائماً ، فقد تكون أحياناً ليلة إحدى وعشرين ، كما جاء في حديث أبي سعيد المتقدّم ، وقد تكون ليلة ثلاث وعشرين كما جاء في رواية عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه كما تقدّم ، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) [أخرجه البخاري (4/260)].
ورجّح بعض العلماء أنها تتنقل وليست في ليلة معينة كل عام ، قال النووي رحمه الله : ( وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك ، ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها ) ["المجموع" 6/450] .
وقد نقل الحافظ بن رجب من كتاب الامام الوزير يحيى بن هبيرة " الإفصاح عن معاني الصحاح "أنه قال فيه: ( الصحيح عندي: أن ليلة القدر تنتقل في أفراد العشر، فإنه حدثني من أثق به أنه رآها في ليلة سبع وعشرين. وحدثني أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله: أنه رآها. فأما أنا فكنت في ليلة إحدى وعشرين وكانت ليلة جمعة، فواصلت انتظارها بذكر اللّه عز وجل، ولم أنم تلك الليلة. فلما كان وقت السحر - وأنا قائم على قدمي - رأيت في السماء بابًا مفتوحًا مربعًا عن يمين القبلة، قدرت أنه على حجرة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فبقي على حاله - وأنا أنظر إليه - نحو قراءة مائة آية، ولم يزل، حتى التفت عن يساري إلى المشرق لأنظر هل طلع الفجر؟ فرأيت أول الفجر. فالتفت إلى ذلك الباب فرأيته قد ذهب. وكان ذلك مما صدق عندي ما رأيت. فالظاهر من ذلك: تنقلها في ليالي الأفراد في العشر. فإذا اتفقت ليالي الجمع في الأفراد فأجدر وأخلق بكونها فيها )["ذيل طبقات الحنابلة" (2/161-ط.مكتبة العبيكان)].
والحاصل أنه إنما أخفى الله تعالى هذه الليلة ليجتهد العباد في طلبها ، ويجدّوا في العبادة ، كما أخفى ساعة الجمعة وغيرها .

رابعاً- علامات ليلة القدر:
1- أن الشمس تطلع في صبيحتها صافية، ليس لها شعاع.
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: "... أخبرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها" [أخرجه مسلم(762)].
وفي لفظ آخر لمسلم(762):"وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها".
2- أنها ليلة مشرقة, معتدلة الهواء لا حارة ولا باردة, ولا يرمى فيها بنجم.
عن واثلة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ليلة القدر ليلة بلجة , لا حارة ولا باردة , ولا يرمى فيها بنجم ومن علامة يومها تطلع الشمس لا شعاع لها" ["صحيح الجامع" /5472].
عن ابن عباس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلة القدر ليلة سمحة طلقة , لا حارة ولا باردة تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء)["صحيح الجامع"(5475)].
ومعنى لَيْلَةٍ بَلِجَةٍ: أي مشرقة مضيئة. ومعنى ليلة سمحة طلقة: أي سهلة طيبة إذا لم يكن فيها حر ولا برد يؤذيان.
3-  أنه قد يُري الله الإنسان الليلة في المنام، كما حصل ذلك لبعض الصحابة رضي الله عنهم["الشرح الممتع"(6/496)].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :"وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنام أو اليقظة، فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له هذه ليلة القدر، وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر".["مجموع الفتاوى"(25/286)]
وقال النووي:"اعلم أن ليلة القدر موجودة كما سبق بيانه في أول الباب فإنها ترى ويتحققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان كما تظاهرت عليه هذه الأحاديث السابقة في الباب وإخبار الصالحين بها ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصر وأما قول القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة( لا يمكن رؤيتها حقيقة) فغلط فاحش نبهت عليه لئلا يغتر به والله أعلم" ["شرح صحيح مسلم"(8/66)].
قال الماوردي: "ويستحب لمن رأى ليلة القدر أن يكتمها ويدعو بإخلاص نية وصحة يقين بما أوجب من دين ودنيا ويكون أكثر دعائه لدينه وآخرته"[ "الحاوي الكبير" (3/ 484)].
4-الطمأنينة أي طمأنينة القلب وإنشراح الصدر من المؤمن فإنّه يجد راحة وطمأنينة في هذه الليلة أكثر ما يجده في بقية الليالي.["الشرح الممتع"(6/496)].
5- أن الإنسان يجد في القيام لذة ونشاطاً، أكثر مما في غيرها من الليالي.
المرجع السابق.

خامساً- استحباب الدعاء فيها:
يستحب أن يدعو فيها بما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ومنه: «اللهم إنك عفو تحبّ العفو فاعف عني» لحديث عائشة أنها قالت: أرأيت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر، فما أقول فيها؟ قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» [أخرجه أحمد (6/ 171، 182، 183)؛ والترمذي(3513)؛ وابن ماجه (3850)؛ والحاكم (1/ 530).وقال الترمذي: «حسن صحيح» وصححه الحاكم على شرطهما، وأقره الذهبي].
فهذا من الدعاء المأثور، وكذلك الأدعية الكثيرة الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يمنع من الزيادة على ما ورد فالنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى شراك نعله» [أخرجه الترمذي (3604)؛ وابن حبان (894)، (895)]، والناس لهم طلبات مختلفة متنوعة فهذا مثلاً يريد عافية من سقم، وهذا يريد غنى من فقر، وهذا يريد النكاح من إعدام، وهذا يريد الولد، وهذا يريد علماً، وهذا يريد مالاً، فالناس يختلفون.
وليعلم أن الأدعية الواردة خير وأكمل وأفضل من الأدعية المسجوعة، التي يسجعها بعض الناس، وتجده يطيل، ويذكر سطراً أو سطرين في دعاء بشيء واحد ليستقيم السجع، لكن الدعاء الذي جاء في القرآن أو في السنة، خير بكثير مما صنع مسجوعاً، كما يوجد في بعض المنشورات[ ينظر:"الشرح الممتع"(6/498)].

سادساً- وأخيرًا نقول لكل مَن فرَّط وضيَّع: اِسْتَدْرِك ما فاتك في ليلة القدر، فالعمل فيها خير من ألف شهر سواها، فمَن حُرِمَ خيرها فهو المحروم، كما أخبر الحبيب - صلى الله عليه وسلم.
 فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افْتَرَضَ الله عليكم صيامه، يُفتَّح فيه أبواب الجَنَّة ويُغَلَّق فيه أبواب الجحيم، وتُغلُّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمَ خيرها فقد حًرِم"[أخرجه أحمد في المسند(8979)،و النسائي(2106)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" 1/ 490].
 وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "دخل رمضان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمَها فقد حُرِمَ الخير كله، ولا يُحْرَم خيرها إلا محروم".[صحيح الجامع: 2247].

والله الموفق والمعين.

الأحد، 19 يونيو 2016

& دراسات حديثية(4)

& حديث: " سِتُّ مَجَالِسَ الْمُؤْمِنُ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ مَا كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا: فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، وَعِنْدَ مَرِيضٍ، أَوْ فِي جَنَازَتِهِ، أَوْ عِنْدَ إِمَامٍ مُقْسِطٍ يُعَزِّرُهُ وَيُوَقِّرُهُ ".
وفي لفظ-لابن زنجويه-:" سِتَّةُ مَجَالِسَ، الْمُسْلِمُ فِيهَا ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَا كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، أَوْ عِيَادَةِ مَرِيضٍ، أَوْ جِنَازَةٍ، أَوْ بَيْتِهِ أَوْ عِنْدَ إِمَامٍ مُقْسِطٍ، وَيُوَقِّرُهُ لِلَّهِ " قَالَ: قُلْتُ: مَا الضَّامِنُ؟ قَالَ: «مَنْ مَاتَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ».

( تخريجه ):
أخرجه ابن أبي عمر في "المسند"- كما في "المطالب العالية" (3/ 566 رقم 374) -، وعبد بن حميد (337) ، والبزار (435/كشف الأستار)، وابن زنجويه في "الأموال"(1/87) رقم (50)، والطبراني في"الكبير"(13/32) رقم (71) من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، به مرفوعاً.

( درجته: حسن لغيره ):
قال الزين العراقي -كما في"فيض القدير"(4/95)-:"ورجاله ثقات".
وقال الهيثمي في"مجمع الزوائد"(2/23):"رواه الطبراني في "الكبير"، والبزار بنحوه، ورجاله موثقون ".
وقال البوصيري في"اتحاف المهرة"(2/49):"مَدَارُ أَسَانِيدِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْأَفْرِيقِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنَّ الْمَتْنَ لَهُ شَاهِدٌ..".
وصححه المناوي في"التيسير"(2/55)، وحسَّنه الألباني في"صحيح الترغيب"(1/79)رقم(328).
وله شاهد: أخرجه أحمد (36/ 412) رقم (22093)، والبزار (1649 - كشف الأستار) ، والطبراني في "الكبير" 20/ (55)من طريق ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: "عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خَمْسٍ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللهِ: " مَنْ عَادَ مَرِيضًا، أَوْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ، أَوْ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ دَخَلَ عَلَى إِمَامٍ يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعْزِيرَهُ وَتَوْقِيرَهُ، أَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَيَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ وَيَسْلَمُ".
وأخرجه ابن خزيمة (1495) ، وابن حبان (372) ، والطبراني في "الكبير" 20/ (54) ، وفي "الأوسط" (8654) ، والحاكم (1/212) و(2/90)، والبيهقي في "السنن" (9/166-167) من طريق الحارث بن يعقوب، عن قيس بن رافع القيسي، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو، عن معاذ. وفيه مكان الجنازة الذهاب إلى المسجد. وجعلوا بدل قوله: "أو قعد في بيته فيسلم الناس منه ويسلم". قوله: "ومن جلس في بيته لم يغتب إنساناً". وإسناده حسن.


*******( والله الموفق )********
 & من هم أهل الحديث؟!

(ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته؛ بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً، واتباعه باطناً وظاهراً، وكذلك أهل القرآن.
وأدنى خصلة في هؤلاء: محبة القرآن والحديث، والبحث عنهما وعن معانيهما، والعمل بما علموه من موجبهما؛ ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم...
وإذا تدبر العاقل وجد الطوائف كلها كلما كانت الطائفة إلى الله ورسوله أقرب كانت بالقرآن والحديث أعرف وأعظم عناية، وإذا كانت عن الله وعن رسوله أبعد كانت عنهما أنأى، حتى تجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية، فقال: لا نسلم صحة الحديث، وربما قال لقوله عليه السلام كذا، وتكون آية من كتاب الله، وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر...
وحدثني ثقة أنه تولى مدرسة مشهد الحسين بمصر بعض أئمة المتكلمين رجلٌ يسمى شمس الدين الأصبهاني شيخ الأيكي، فأعطوه جزءً من الربعة، فقرأ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ . ألمص}؛ حتى قيل له: ألف لام ميم صاد.
فتأمل هذه الحكومة العادلة ليتبين لك أن الذين يعيبون أهل الحديث ويعدلون عن مذهبهم جهلة زنادقة منافقون بلا ريب، ولهذا لما بلغ الإمام أحمد عن  "ابن أبي قتيلة" أنه ذكر عنده أهل الحديث بمكة، فقال: قوم سوء. فقام الإمام أحمد وهو ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، زنديق. ودخل بيته؛ فإنه عرف مغزاه )*.


..................

* ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية ـ رحمه الله ـ(4 / 95 - 96).