السبت، 16 يوليو 2016

& بطلان دعوى صاحب السند المتصل في صفة الوضوء!
كتبه/ د. خالد بن قاسم الردادي

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...وبعد:
فقد سئلت عن مقطع فيديو انتشر كثيرا تناقله في بعض وسائل الاتصال لبعض الناس زعم ناشره أن من صُوِّر له المقطع لديه سند متصل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يبين فيه كيفية صفة وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم-!!
وقد اطلعت على المقطع المذكور فألفيت عجبا وجهلا بالغاً  وأمورا مخالفة لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أوجزها فيما يأتي:
1- قد ذكر علماء الحديث في كتب الاصطلاح عند حديثهم عن بعض أنواع علوم الحديث وهو الحديث المسلسل أنَّ من الأحاديث المسلسلة بالأفعال الحديث المسلسل بالوضوء  وفيه: "قم فصب علي حتى أريك وضوء فلان". وهو حديث أخرجه الحاكم في"معرفة علوم الحديث"(ص30):
حَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الزَّاهِدُ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُؤَمَّلِ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَاشِدٍ الْأَدَمِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْوَاسِطِيُّ خَادِمُ أَبِي مَنْصُورٍ الشَّنَابُزِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو مَنْصُورٍ: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ مَنْصُورٍ، فَإِنَّ مَنْصُورًا قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ عَلْقَمَةَ، فَإِنَّ عَلْقَمَةَ قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي: « قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ جَبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ » ، فَقُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ: كَيْفَ تَوَضَّأَ؟  قَالَ: ثَلَاثًا ثَلَاثًا . 
وإسناده حسن، وهو مختصر ليس فيه تفاصيل صفة الوضوء -كما في المقطع المذكور آنفاً-، وإنما اقتصر الراوي على ذكر العدد(ثلاثا ثلاثا)، والتسلسل فيه  بقول كل راو :"قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ..".
[ وينظر:"شرح التبصرة والتذكرة"(2/95)، و"فتح المغيث"(4/39)].
قال ابن الصلاح في"معرفة علوم الحديث"(ص379):"وقَلَّما تَسْلَمُ المسَلْسَلاتُ مِنْ ضَعْفٍ، أعْنِي: في وَصْفِ التَّسَلْسُلِ لا في أصلِ المتنِ".
ولا ريب أن  صاحب الوضوء المذكور في المقطع لايقصد هذا الحديث الذي ذكرته آنفا البتة، وإنما جاء بصفة من عنده -لم يبينها- لا أصل لها في كتب السنة!!
وليس في المقطع المذكور ذكر للرواية والاسناد  المتصل -المزعزم- ؛ وإنما صفة لوضوء لا دليل على أكثر تفاصيله! فلم التدليس !!!
كان يلزم هذا المتوضئ أن يتحفنا بسنده ومصدره حتى ننظر في صدق دعواه في اتصال السند من شيخه إلى منتهى السند بالصفة التي ساقها - كما زعم رافع المقطع -!! 
ويستحيل أن يختفي هذا الأمر على أهل الحديث -سابقهم ولاحقهم- ثم يظهره شخص مغمور لا يُعرف ليتحفنا بهذا!!
 فالسند صاحبه مجهول عن سلسلة مجاهيل على فرض وجودهم!!

2- صفة الوضوء التي ذكرها -وأطال فيها- من فرك للأعضاء وتخليل الماء بينها وضرب بقبضة اليد في باطن الأخرى وطريقة صب الماء... لا أصل له في كتب السنة، ولا أدري من أين جاء بهذا ؟! وفيها تكلف وتنطع وتعسف بالغ !!

3- قوله (غسل اليد وحدها أفضل من غسل الثنتين في وقت واحد ..وكونهما بست أفضل..) لادليل عليه!!

4- قوله(السواك مندوب وإن بأصبع)لا دليل عليه !

5- قوله (نسيت الاستنشاق ..نسيته وسأرجع إليه بعد هذا لأن الفرض لا يرجع منه إلى السنة) لادليل 

عليه، فكان عليه الرجوع من غير حرج !

6- يكثر من التهليل أثناء وضوئه وكأنه من سنن الوضوء! وهذا لا دليل عليه أيضاً.

7- مسحه لرقبته وأخذه ماءا جديدا لمسح بعض الرأس وللأذنين ، كل هذا  لم يثبت في السنة.

8- كشفه عن فخذه أثناء وضوئه يدل على جهله !!

9- رفع اليدين عند الذكر في نهاية الوضوء والذكر الذي قاله لا يثبت منه شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلا حديث :"اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي" فقد أخرجه أحمد رقم(19574)، والنسائي في"اليوم والليلة"رقم(80) وهو حديث حسن، وصححه النووي في"الأذكار"(ص29).

9- صفة مسح الرأس للمرأة التي ذكرها لا تصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يثبت بها نص.
 
وختاما فلاريب أن انتشار وتداول مثل هذه المقاطع والتي فيها كثير من المخالفات -كما سبق- يمثل خطرا على السنة وأهلها من قبل الصوفية ومن شاكلهم فهم يزعمون أمورا قد اختصوا بها دون غيرهم من الناس ينشرون من خلالها بدعهم وأباطيلهم مع افتتان كثير من العوام بمثل هذه الأمور والنظر لهم بالتعظيم والإجلال والسبق في لزوم السنة وهم أبعد الناس عنها ، وكل هذا لصرف الناس عن تعلم السنة ولزومها وإشغالهم بالبدع وفعل المخالفات فإلى الله الشكوى.
ومما يجدر التنبيه عليه أن يجب محاربة مثل هذه المقاطع وكشف مافيها من مخالفات للسنة حتى يحذر منها الناس ويموت ذكرها، نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، ويوفقنا للزوم كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.



الأحد، 10 يوليو 2016

تحذير العباد من اتخاذ المساجد أماكن للرقص والإنشاد!

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله تعالى قد بين وظيفة المسجد والهدف من بنائه، وما يشرع فيه من الأعمال، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور:36و37].
فالمساجد إنما بنيت ليعظم فيها الله بطاعته –جل وعلا- من أداء الصلوات وذكر الله بأنواع الذكر من التسبيح والتهليل والتحميد له سبحانه، آناء الليل وأطراف النهار؛ لذا كان المسجد معظماً في الإسلام، فكان لزاماً أن يحافظ عليه من الامتهان بالأوساخ، أو رفع الأصوات فيه بإنشاد الضالة أو الصخب أو اللهو الذي تنتهك به حرمة ذلك البيت المتميز عن غيره من البيوت.
بل حتى الشعر المجرد مع كونه مباحاً يكره الاكثار منه في بيوت الله؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّه:«نَهَى عَنْ تَنَاشُدِ الأَشْعَارِ فِي المَسْجِدِ، وَعَنِ البَيْعِ وَالِاشْتِرَاءِ فِيهِ، وَأَنْ يَتَحَلَّقَ النَّاسُ فِيهِ يَوْمَ الجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ» [أخرجه أبو داود رقم(1079)، والترمذي رقم(322)، والنسائي (2/ 47)، وابن ماجه رقم(749)و(1133). وحسّنه الترمذي، والنووي في"الخلاصة"(2/287)، وابن حجر في"الفتح"(1/549)، والألباني في"إرواء الغليل"(7/363)].
ومن المنكرات العظيمة مايفعله بعض الجهال من امتهان لقدسية ومكانة المسجاد وذلك باتخاذها مكاناً للهو واللغو والرقص والاحتفال خاصة في أيام الأعياد، ولا ريب أن هذا جرم عظيم ينافي مكانتها والقصد من بنائها وعمارها، فيجب معرفة قدرها وشرفها، وتعاهدها، وتطهريها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق بها.
فعن  عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي الْمَسْجِدِ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "اجْتَنِبُوا اللَّغْوَ فِي الْمَسَاجِدِ"[أخرجه أحمد في"فضائل الصحابة" رقم(572)].
 وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نهى الله سبحانه عن اللغو في المساجد". وقال قتادة -رحمه الله-: "المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها" [ينظر:"تفسير ابن كثير"(10/242)].
ومما يصان منه المسجد إنشاد الشعر فيه إذا أدى إلى اللغط وارتفاع الأصوات، فإن ذلك منهي عنه كما جاء عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لِيَلِنِي مِنْكُمْ، أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَلَاثًا، وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ» [أخرجه مسلم رقم(432)].
ومن هيشات الأسواق: ارتفاع الأصوات واللغط، والإنشاد جماعة في المسجد داخل في هذا والله أعلم.[ينظر:"شرح مسلم" للنووي(4/156)].
قال القرطبي -رحمه الله-:"أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك، فمن مانع مطلقا، ومن مجيز مطلقا، والأولى التفصيل، وهو أن ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضي الثناء على الله -عز وجل- أو على رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو الذب عنهما كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها، فهو حسن في المساجد وغيرها، كقول القائل:
طوفي يا نفس كي أقصد فردا صمدا ... وذريني لست أبغي غير ربي أحدا
فهو أنسي وجليسي ودعي الناس ... فما إن تجدي من دونه ملتحدا
وما لم يكن كذلك لم يجز، لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك، لقوله تعالى:{في بيوت أذن الله أن ترفع}"["تفسير القرطبي"(12/271)].
وقال أبو الطيب الطبري – رحمه الله -:"ليس في المسلمين من جعله (تلحين الشعر) طاعة وقربى، ولا رأى إعلانه في المساجد، ولا حيث كان من البقاع الكريمة والجوامع الشريفة؛ فكان مذهب هذه الطائفة (الصوفية) مخالفاً لما أجمع عليه العلماء"["نزهة الأسماع"لابن رجب (ص: 84)].
وقال العز بن عبد السلام -رحمه الله-:"وأما الرقص و التصفيق فَخِفَّةٌ ورعونة، مُشْبِهَةٌ لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذّاب، كيف يتأتى الرقص المتَّزن بأوزان الغناء، ممن طاش لُبُّه وذهب قلبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) متفق عليه. ولم يكن واحد من هؤلاء الذين يقلّدونهم يفعل شيئاً من ذلك.["قواعد الأحكام" (2/186)].
وقال الصنعاني -رحمه الله-: "وأما الرقص والتصفيق فشأن أهل الفسق والخلاعة لا شأن من يحب الله ويخشاه"["سبل السلام"(3/130_131)].
وقال الإمام شرف الدين إسماعيل بن المقري اليمني الشافعي في قصيدته في ذمّ الرقص:

قالوا: رَقصْنا كما الأُحْبوشُ قد رقصوا** بمسجد المصطفى، قُلنا: بلا كَذِبِ

الحُبْشُ ما رقصوا، لـكنهم لَعِبـوا** مِنْ آلـة الحَرْبِ بالآلات واليَلَبِ

وذلـك اللـعبُ منـدوبٌ تَعلُّمُه ** في الشرع للحرب تدريباً لكلّ غبي

[ينظر: رسالة "الرّهص والوقص لمستحلّ الرقص"(ص42)].

وختاماً: 
يجب على كل مسلم يحب الله، ويرجو عفوه ومغفرته، أن يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه، وأن يعظم حرماته وشعائره، وأن يحافظ على المساجد من العبث فيها، وأذية المسلمين الخاشعين الراكعين الساجدين فيها، وأن يقطع كل وسائل الاتصالات بينه وبين الناس، وأن يتصل مع الله - جل وعلا - وذلك بمحافظته على الصلوات الخمس في المساجد مع الجماعة، مع العناية الشديدة بخشوعها، ولا يتأتى ذلك إلا بترك كل ما يشغل عن الله.

فالله الله في احترام المساجد وتعظيمها، وعدم أذية المسلمين العمار لها، وتربية أولادنا على ذلك وحب الصلاة، وحب المساجد وحب نظافتها وأن نبين لهم حرمة العبث والتخريب في المساجد والأذية فيها.

نسأل الله تعالى أن يعيننا على طاعته وذكره وحسن عبادته، والله الموفق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.

والحمد لله رب العالمين.

الاثنين، 4 يوليو 2016

مسائل وفوائد في التهنئة بالعيد

كتبه/د. خالد بن قاسم الردادي

اولاً-  التهنئة في اللغة خلاف التعزية، يقال: هنأه بالأمر والولاية تهنئة وتهنيئا إذا قال له: ليهنئك وليهنيك، أو هنيئا، ويقال: هنأه تهنئة وتهنيا. والهنيء والمهنأ: ما أتاك بلا مشقة ولا تنغيص ولا كدر.
والهنيء من الطعام: السائغ، واستهنأت الطعام استمرأته [ينظر: "معجم مقاييس اللغة"(6/68)، ,"تاج العروس"(1/512)] .
وفي الاصطلاح: المباركة للشخص بخير أصابه، خلاف التعزية. ولا تخرج التهنئة - في الجملة - عن المعنى اللغوي، لكنها في مواطنها قد تكون لها معان أخص كالتبريك، والتبشير، والترفئة، وغير ذلك [ينظر: "معجم لغة الفقهاء"(ص149)، "الموسوعة الفقهية"(14/95)].
والتهاني -من حيث الأصل- من باب العادات ، والتي الأصل فيها الإباحة ، حتى يأتي دليل يخصها ، فينقل حكمها من الإباحة إلى حكم آخر.
قال العلامة السعدي -رحمه الله- مبيناً هذا الأصل في جواب له عن حكم التهاني في المناسبات: " هذه المسائل وما أشبهها مبنية على أصل عظيم نافع ، وهو أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز ، فلا يحرم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع ، أو تضمن مفسدة شرعية .."[ "المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي"(1/143)].

ثانياً- قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في"مجموع الفتاوى"(24/253):"  وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ فَلَيْسَ سُنَّةً مَأْمُورًا بِهَا، وَلَا هُوَ أَيْضًا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، فَمَنْ فَعَلَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ ".
وسئل الشيخ العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: ما حكم المصافحة، والمعانقة والتهنئة بعد صلاة العيد؟
فأجاب بقوله:" هذه الأشياء لا بأس بها؛ لأن الناس لا يتخذونها على سبيل التعبد والتقرب إلى الله عز وجل، وإنما يتخذونها على سبيل العادة، والإكرام والاحترام، ومادامت عادة لم يرد الشرع بالنهي عنها فإن الأصل فيها الإباحة "["مجموع فتاواه"(16/209)].

ثالثاً-" التَّهْنِئَةُ يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إذَا لَقِيَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَأَحَالَهُ اللَّهُ عَلَيْك، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ، الْأَئِمَّةُ، كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ "[ "مجموع الفتاوى"لابن تيمية (24/253)].

رابعاً- الآثار الواردة عن الصحابة والسلف في جواز التهنئة بالعيد:

  • عَن مُحَمَّد بن زِيَاد الْأَلْهَانِي قَالَ: كُنَّا نأتي أَبَا أُمَامَة وواثلة بن الْأَسْقَع فِي الْفطر والأضحى ونقول لَهما: قبل الله منا ومنكم. فَيَقُولَانِ: ومنكم ومنكم.[أخرجه الطحاوي كما في"مختصر اختلاف العلماء"(4/385) بسند حسن].
  • -وفي كتاب "تحفة عيد الأضحى" لأبي القاسم زاهر بن طاهر الشحامي المستملي (ما أورده) بسند حسن عن جبير بن نفير -وهو من كبار التابعين، وذكر في الصحابة لأن له رؤية، وهو من رجال الصحيح - قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنكم.[ "جزء في التهنئة في الأعياد" لابن حجر(ص33)].
  • وأخرج الخلال في كتاب "العلل" عن حرب الكرماني عن إسحاق بن زاهر بسند حسن إلى عمرو السكسكي قال: رأيت عبد الله بن بسر المازني وخالد بن معدان وراشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير بن نفير يقول بعضهم لبعض في العيدين: تقبل الله منا ومنكم.
  • نقل أبو الوفاء بن عقيل في كتاب "الفصول" عن الإمام أحمد بن حنبل قال: إسناد حديث أبي أمامة جيد.
  • ونقل الشيخ موفق الدين ابن قدامة في "المغني" عن حرب قال: سئل أحمد عن قول الناس تقبل الله منا ومنك فقال: لا بأس به، يرويه أهل الشام عن أبي أمامة، قيل له: وعن واثلة، قال: نعم.[ "جزء في التهنئة في الأعياد" لابن حجر(ص35)].
  • وروى حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب قَالَ: كُنَّا نأتي مُحَمَّد بن سِيرِين وَالْحسن فِي الْفطر والأضحى فَنَقُول لَهما: قَبِلَ اللهُ مِنَّا ومنكم. فَيَقُولَانِ: ومنكم.[ "مختصر اختلاف العلماء"(4/385)].
  • وعَنْ أدْهَم مَوْلى عُمَر بن عبد العزيز، قَالَ: "كُنَّا نقُولُ لِعُمَرَ بنِ عبد العَزِيزِ في الْعِيدَيْنِ: تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنَّك، يا أمير المؤمنين. فلا يَنْكُر ذَلِكَ عَلينَا"[ أخرجه زاهر بن طاهر الشحّامي في"جزء تحفة عيد الفطر"رقم(51)، والبيهقي(3/319) بإسناد لابأس به].
  • وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ: سَأَلْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ مُنْذُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً(يعني عن التهنئة )، فقَالَ: لَمْ يَزُلْ يُعْرَفُ هَذَا بِالْمَدِينَةِ.[ "المغني"(2/296)، و"جزء في التهنئة في الأعياد" لابن حجر(ص40-41)].
  • وقال أبو بكر الآجري:"هو فعل الصحابة والعلماء"["جزء في التهنئة في الأعياد" لابن حجر(ص37)].
خامساً- المتعارف عليه أن التهنئة بالشئ تكون عند حصوله وحدوثه، فهل يهنئ بالعيد بعد رؤية الهلال أم بعد الفراغ من صلاة العيد؟
لم يرد عن السلف فعلهم للتهنئة قبل الصلاة، ولايوجد مايمنع وهو من باب العادات والأصل فيها الإباحة -كما سبق-، فالذي أراه أنه لاتثريب على من بادر بالتهنئة ليلة العيد عن طريق وسائل الاتصال فالباب في هذا واسع إن شاء الله تعالى.
وأما القول بأن من قدم التهنئة قبل العيد فقد خالف السنة، فلا يصح ولا وجه له لأن التهنئة ليست سنة مأمور بها -كما سبق نقله عن ابن تيمية- ولم يرد فيها شئ من السنة أصلاً.

سادساً- لا إشكال في التهنئة بالعيد والفرح والاجتماع بعد انتهائه ولو لأيام تأتي؛ لأن المقصود منه التودد وإظهار الفرح والسرور.
قال الإمام عبد الرزاق الصنعاني(ت211هـ): وسألت معمراً(ت153هـ) عن صيام الست التي بعد يوم الفطر، وقالوا له: تصام بعد الفطر بيوم، فقال: "معاذ الله إنما هي أيام عيد وأكل وشرب، ولكن تصام ثلاثة أيام قبل أيام الغر، أو ثلاثة أيام الغر أو بعدها، وأيام الغر ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر". وسألنا عبد الرزاق: "عمن يصوم يوم الثاني؟ فكره ذلك، وأباه إباء شديداً". ["المصنف"(4/316)].
قال الشرواني الشافعي -رحمه الله- : "..لا تطلب – أي : التهنئة - في أيام التشريق وما بعد يوم عيد الفطر، لكن جرت عادة الناس بالتهنئة في هذه الأيام ولا مانع منه ; لأن المقصود منه التودد وإظهار السرور ، ويؤخذ من قوله يوم العيد أيضاً : أن وقت التهنئة يدخل بالفجر لا بليلة العيد خلافا ، لما في بعض الهوامش ا هـ ، وقد يقال : لا مانع منه أيضاً إذا جرت العادة بذلك ؛ لما ذكره من أن المقصود منه التودد وإظهار السرور ، ويؤيده ندب التكبير في ليلة العيد " [انتهى من: "حواشي الشرواني على تحفة المحتاج"(2/57)] .

 والله الموفق والمعين. 

الجمعة، 1 يوليو 2016

تسميةآخر جمعة من رمضان بـ(الجمعة اليتيمة)!

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...وبعد:

أولاً:
 اطلاق لفظة(الجمعة اليتيمة) أو (جمعة الوداع) على آخر جمعة في رمضان مصطلح لا يُعرف في الشرع ، فهو مصطلح محدَث ، وكل ما حفَّه من صلوات مخصوصة أو احتفال مخصوص أو تذكير برسائل على شبكات التواصل خاصة به: محدث مثله .
والصحيح الثابت في الكتاب والسنة وآثار السلف وأقوال أهل العلم هو التأكيد على الفرائض التي فرض الله على عباده من صلاة وصيام وغير ذلك وجوبا ، والتأكيد على النوافل التي سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم استحباباً .
وما عدا ذلك مما أحدث الناس في دين الله فمحدث مردود .

ثانيا :
تنوعت صور المحدثات والبدع المتعلقة بهذه التسمية ، أو الفضيلة المخترعة ، وتفاوتت بتفاوت البلدان ؛ فمن ذلك :

1 - احتفال بعض الناس بما يسمونه بالجمعة اليتيمة وذلك بإرسال رسائل تذكيرية خاصة على شبكات التواصل أو عبر خطب الجمع؛ وكل هذا لا أصل له في الشرع ، وليس لآخر جمعة من رمضان خصوصية عن باقي أيامه ، ولا يتعلق بها شيء من أمر شفاء الأمراض ، كما يعتقدون في الجمعة اليتيمة، ولا شيء من خصوصيات العبادة كذلك . [ينظر:"البدع الحولية"(ص337)].

2- الصلاة التي يصليها طوائف من العوام والمبتدعة في آخر جمعة من رمضان ، يزعمون أنها تكفِّر إثم من فاتته صلوات مفروضة : فهذه صلاة مبتدعة لا أصل لها .
فقد سئل الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- :
هناك جماعة من الناس عندهم عادة في رمضان وهي صلاتهم الفروض الخمسة بعد صلاة آخر جمعة ويقولون : إنهاء قضاء عن أي فرض من هذه الفروض لم يصله الإنسان أو نسيه في رمضان ، فما حكم هذه الصلاة ؟ .
فأجاب :
"الحكم في هذه الصلاة : أنها من البدع ، وليس لها أصل في الشريعة الإسلامية ، وهي لا تزيد الإنسان من ربه إلا بُعداً ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار) فالبدع وإن استحسنها مبتدعوها ورأوها حسنة في نفوسهم : فإنها سيئة عند الله عز وجل ؛ لأن نبيه صلى الله عليه وسلم يقول : (كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار) وهذه الصلوات الخمس التي يقضيها الإنسان في آخر جمعة من رمضان : لا أصل لها في الشرع ، ثم إننا نقول : هل لم يخلَّ هذا الإنسان إلا في خمس صلوات فقط ؟! ربما أنه أخل في عدة أيام لا في عدة صلوات .
والمهم : أن الإنسان ما علم أنه مخلٌّ فيه : فعليه قضاؤه متى علم ذلك ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) – متفق عليه - وأما أن الإنسان يفعل هذه الصلوات الخمس احتياطاً - كما يزعمون - : فإن هذا منكر ولا يجوز"["مجموع فتاوى الشيخ العثيمين"( 12 / 227 ، 228)].

3- يعتبر كثير من مسلمي الهند ( جمعة الوداع ) مناسبة دينية مهمة ، للاجتماع والالتقاء ، فيشدون رحالهم إلى المسجد الكبير ، ويجتمع أعداد غفيرة من المسلمين في هذه الجمعة .
وقد سبق أنه ليس لهذه الجمعة فضيلة مخصوصة ، ومن ظن ذلك واعتقده فقد أخطأ ، والواجب التزام حضور الجمع والجماعات كلما نودي بالصلاة ، وألا يتخلف عنها إلا أصحاب الأعذار .

4- ومن الامور المحدثة المتعلقة بوداع رمضان , مايفعله بعض الخطباء في آخر جمعة من رمضان ,من ندب فراقه كل عام , والحزن على مضيه ,وقوله : لا أحوش الله منك ياشهر كذا وكذا . ويكرر هذه الوحشيات مسجعات مرات عديدة ,
ومن ذلك قوله :لا أحوش الله منك ياشهر المصابيح ,لا أحوش الله منك ياشهر المفاتيح . فتأمل هدانا الله وإياك لما آلت إليه الخطب , لا سيما خطبة آخر هذا الشهر الجليل , الناس فيه بحاجة ماسة الى آداب يتعلمونها لما يستقبلهم من صدقه الفطر ,ومواساة الفقراء , والاستمرار على ما ينتجه الصوم من الأمور الفاضلة, والآثار الحميدة , وتجنب البدع وغير ذلك مما يقتضيه المقام. [ينظر:"إصلاح المساجد" (ص 145 , 146) و"السنن والمبتدعات"(ص165)].

5- من هذه الصور أيضا : ما يسميه البعض بـــ " صلاة الفائدة " ، وهي من الصلوات المبتدعة في هذه المناسبة .
سئل العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- : عن صلاة الفائدة وهي مائة ركعة ، وقيل أربع ركعات تصلى في آخر جمعة من رمضان ، فهل هذا القول صحيح ؟ وما حكم هذه الصلاة ؟
فأجاب: " هذا القول ليس بصحيح ، وليس هناك صلاة تسمى صلاة الفائدة ، وجميع الصلوات فوائد ، وصلاة الفريضة أكبر الفوائد ؛ لأن جنس العبادة إذا كان فريضة فهو أفضل من نافلتها .
وأما صلاة خاصة تسمى صلاة الفائدة : فهي بدعة لا أصل لها .
وليحذر المرء من أذكار وصلوات شاعت بين الناس وليس لها أصل من السنة ، وليعلم أن الأصل في العبادات الحظر والمنع ، فلا يجوز لأحد أن يتعبد لله بشيء لم يشرعه الله في كتابه ، أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومتى شك الإنسان في شيء أمن أعمال العبادة أو لا ؟ فالأصل أنه ليس بعبادة حتى يقوم دليل على أنه عبادة " ["مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (14/ 331)].

والله الموفق والمعين