& جواز ذم أهل البدع والتحذير منهم !
كتبه: د. خالد بن قاسم الردادي.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...وبعد:
نبتت نابتة في أيامنا هذه من أهل السنة يتورعون عن ذم أهل البدع وسبهم والقدح فيهم؛ بل وصل الحال ببعضهم اعلان النكير على من سبهم أو ذمهم عملًا بأن اﻷصل في المسلم أن ﻻ يكون لعانًا وﻻ شتامًا، فهل استدﻻلهم هذا صحيح؟ وهل يمنع سب أهل البدع والهوى وذمهم بما فيهم أم ﻻ ؟
وللإجابة عن هذا -والذي أراه من آثار الغزو الفكري من قبل أهل البدع لأهل السنة- نقول:
ﻻ ريب أن الأصل في المسلم أن لا يكون لعاناً ولا شتاماً، وأن يجتنب الطعن والفحش والبذاءة؛ لكن قد ثبت جواز سب وذم من تعزى بعزاء الجاهلية وفخرها وأن يشنع عليه بأقبح الألفاظ والأوصاف لعظم وقبح ما جاء به:
فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا اعْتَزَى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعَضَّهُ، وَلَمْ يُكَنِّهِ، فَنَظَرَ الْقَوْمُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: إِنِّي قَدْ أَرَى الَّذِي فِي أَنْفُسِكُمْ، إِنِّي لَمْ أَسْتَطِعْ إِلَّا أَنْ أَقُولَ هَذَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَنَا: "إِذَا سَمِعْتُمْ مَنْ يَعْتَزِي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، فأَعِضُّوه بِهَنِ أَبِيهِ ولا تَكْنُوا".
أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" 1/300-301، وأحمد (35/157) رقم (21233)، والبخاري في "الأدب المفرد" (963) ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (976) ، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (3204) و (3207) ، والشاشي (1499) ، والطبراني في "الكبير" (532) ، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (756) ، والبغوي (3541) ، والضياء في "المختارة" (1244)، وهو حديث حسن. صححه الألباني في"السلسلة الصحيحة"(1/537) رقم (268).
وقوله: (فأَعِضُّوه بِهَنِ أَبِيهِ ولا تَكْنُوا) أَيْ قُولوا لَهُ: اعْضَضْ بأيْرِ أبِيك، وَلَا تكْنُوا عَنِ الأيْر بالَهن، تَنْكيلاً لَهُ وتأدِيباً."النهاية"(3/252).
وكذلك جاء جواز لعن المبتدعة وسبهم وذمهم والقدح فيهم للتنفير من بدعتهم وبيان خطر وقبح ماهم عليه.
والأصل في لعن المبتدعة على وجه العموم قد دل عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
« المَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلًا » متفق عليه من حديث علي -رضي الله عنه- .
[ البخاري في كتاب الاعتصام، باب: ما يكره من التعمق( 7300)، ومسلم في كتاب الحج، باب: فضل المدينة (1370) ].
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- في"الفتح"(12/279) : " الغرض بإيراد هذا الحديث هنا لعن من أحدث".
وجاء عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- لعن المبتدعة فعن سعيد بن جهمان قال:" أتيت عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- وهو محجوب البصر، فسلمت عليه، فقال: من أنت؟
فقلت: أنا سعيد بن جهمان.
قال: فما فعل والدك؟
قلت: قتلته الأزارقه.
فقال: لعن الله الأزارقة. [ أخرجه ابن عاصم في السنة: 424 ].
وقال الآجري في"الشريعة"(2/702):" وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ سَبُّوا مَنْ تَكَلَّمَ بِالْقَدَرِ وَكَذَّبَ بِهِ، وَلَعَنُوهُمْ وَنَهَوْا عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ ".
وقَالَ أَبُو العَبَّاسِ السَّرَّاجُ فِي (تَارِيْخِهِ)-كما في"السير"(8/468)- : حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بنُ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَفَّانَ، سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ فِي السَّنَةِ الَّتِي أَخَذُوا فِيْهَا بِشْراً المَرِيْسِيَّ بِمِنَىً، فَقَامَ سُفْيَانُ فِي المَجْلِسِ مُغْضَباً، فَقَالَ:" لَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي القَدَرِ وَالاعْتِزَالِ، وَأُمِرْنَا بِاجْتِنَابِ القَوْمِ، رَأَيْنَا عُلَمَاءنَا، هَذَا عَمْرُو بنُ دِيْنَارٍ، وَهَذَا مُحَمَّدُ بنُ المُنْكَدِرِ - حَتَّى ذَكَرَ أَيُّوْبَ بنَ مُوْسَى وَالأَعْمَشَ وَمِسْعَراً - مَا يَعْرِفُوْنَهُ إِلاَّ كَلاَمَ اللهِ، وَلاَ نَعْرِفُهُ إِلاَ كَلاَمَ اللهِ، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ مَرَّتَيْنِ، فَمَا أَشْبَهَ هَذَا بِكَلاَمِ النَّصَارَى، فَلاَ تُجَالِسُوهُم ".
وَعَنْ حُسَيْنٍ الكَرَابِيْسِيِّ، قَالَ: سُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الكَلاَمِ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: سَلْ عَنْ هَذَا حَفْصاً الفَرْدَ وَأَصْحَابَهُ أَخْزَاهُمُ اللهُ. [ " حلية الأولياء ": 9 / 111 ].
قال ابن الجوزي :"وقد لعن أحمد بن حنبل من يستحق اللعن . فقال في رواية مسدد : قالت الواقفية الملعونة ، والمعتزلة الملعونة .
وقال عبيد الله بن أحمد الحنبلي : سمعت أحمد بن حنبل يقول على الجهمية : لعنة الله ، وكان الحسن يلعن الحجاج ، وأحمد يقول : الحجاج رجل سوء " [ "الآداب الشرعية" لابن مفلح(1/269) ].
وقَالَ الخَلاَّلُ -كما في"السير"(11/170)-: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي هَارُوْنَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ هَانِئٍ، قَالَ:حَضَرتُ العِيْدَ مَعَ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، فَإذَا بِقَاصٍّ يَقُوْلُ: عَلَى ابْنِ أَبِي دُوَادَ اللَّعْنَةُ، وَحَشَا اللهُ قَبْرَهُ نَاراً. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: مَا أَنْفَعَهُم لِلعَامَّةِ!
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ السُّنِّيُّ: سَمِعْتُ النَّسَائِيَّ يُسْأَلُ عَنْ عَلِيِّ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ(بنِ المَرْزُبَانِ)، فَقَالَ: قَبَّحَهُ اللهُ، ثَلاَثاً. [ "السير"(12/349) ].
ونختم بقصيدة رائعة للإمام السَّلَفي الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السِّلَفِي فيها ما يكفي ويشفي، قال -رحمه الله-:
فلا تصحب سوى السني ديناً = لتحمد ما نصحتك في المآل
وجانب كل مبتدع تراه = فما إن عندهم غير المحال
ودع آراء أهل الزيغ رأساً = ولا تغررك حذلقة الرُّذال
فليس يدوم للبدعي رأي = ومن أين المقر لذي ارتحال
يوافى حائراً في كل حالٍ = وقد خلى طريق الاعتدال
ويترك دائباً رأياً لرأيٍ = ومنه كذا سريع الإنتقال
وعمدة ما يدين به سفاهاً = فأحداث من اْبواب الجدال
وقول أئمة الزيغ الذي لا = يشابهه سوى الداء العضال
كمعبد (المضلل) في هواه = وواصل اْو كغيلان المحال
وجعدٍ ثم جهمٍ وابن حربٍ = (حمير) يستحقون المخال
(وثور كاسمه أو شئت فاقلب) = وحفص الفرد (قرد) ذي افتعال
وبشر لا رأى بُشرى فمنه = تولّد كل شر واختلال
وأتباع ابن كُلاَّب (كِلاب) = على التحقيق هم من شر آل
كذاك أبو الهذيل وكان مولى = لعبد القيس قد شان الموالي
ولا تنس ابن أشرس المكنّى = أبا معن ثمامة فهو (غالي)
ولا ابن الحارث البصري ذاك الـ = (مضِل) على اجتهاد واحتفال
ولا الكوفي أعنيه ضرار بـ = ـن عمرو فهو للبصري تالي
كذاك ابن الأصم ومن قفاه = من (اْوباش) البهاشمة النغال
وعمرو هكذا أعني ابن بحر = وغيرهمُ من (أصحاب الشمال)
فرأي أُولاء ليس يفيد شيئاً = سوى الهذيان من قيل وقال
وكل هوىً ومحدثة ضلال = ضعيف في الحقيقة كالخيال
فهذا ما أدين به إلهي = تعالى عن شبيه أو مثال
وما نافاه من خُدعٍ وزور = ومن بدع فلم يخطر ببالي
["السير" ( 21/34-36 )، وينظر أيضاً في التحذير من أهل البدع بأعيانهم رسالة السجزي في "الرد على من أنكر الحرف والصوت "( ص: 220-223 ) ].
قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -:
"فإن توقير صاحب البدعة مظنّة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم:
إحداهما: التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنّه أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنّة على سنّتهم.
والثانية: أنّه إذا وُقِّرَ من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء.وعلى كل حـال فتحيا البـدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه." [ "الاعتصام" للشاطبي ( 1/114 ) ].
وقال العلامة مقبل الوادعي-رحمه الله-:" وصدق ربنا إذ يقول في كتابه الكريم:﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾[سورة الحـج/الآية:18]إذا أهان الله شخصاً لو نفخته الإذعات وكذلك أيضاً الصحافة أو غيرها ما نفعه ذلك وصار كلام الإذاعات والصحافة وبقية وسائل الإعلام صار نباحاً وقد ألح علي في الرد على القرضاوي مراراً حتى سمعت ما لا يجوز أن يسكت عنه فبدأت بهذه السلسلة الأولى وننصح الإخوة أن من كان لديه كلام أو صحيفة فيما يتعلق بالقرضاوي فليرسلها إلينا وسميت الرد:"إسكات الكلب العاوي يوسف بن عبد الله القرضاوي"!
سيقول بعض الحزبيين: "عالم من العلماء وسميته كلباً عاوياً! أما هذه فكبيرة يا أبا عبد الرحمن عالم من العلماء! ومفتي قطر!"
اسمعوا إلى قول الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ¤وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ [سورة الأعراف/الآية:175-176] ويقول: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [سورة الجمعة/الآية:5] ويقول: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ¤ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ [سورة الأنفال/الآية:22-23] " اهـ
[رد على القرضاوي" إسكات الكلب العاوي يوسف بن عبد الله القرضاوي"(ص5) ط-دار الآثار-صنعاء ].
وبالجملة فلو رحت أذكر نقول السلف وأهل العلم في جواز هذا لطال المقام وحسبي ماذكرت ففيه كفاية وغنية لمن رام الحق ولزم السنة، ومما تقدم يتبين أن أمور الجاهلية وأمور الإحداث تحتاج إلى شدة على مرتكبيها حتى تزول وتندثر وفي هذا خير كبير، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(28/53-54):" إن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة؛ لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين ".
فاربعوا على أنفسكم يا أرباب الورع البارد الكاذب فلم نر غيرة كثير منكم حينما نيل من قامات أهل السنة وأساطينها في عصرنا هذا من قبل رؤس البدع والهوى والزيغ، بينما نراها بيَّنة عند التحذير والقدح في رؤوس أهل البدع والتحزب في زماننا هذا !!
والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق